القسم الثاني من الفن الأول في الظاهر والمؤول .
اعلم أنا بينا أن اللفظ الدال الذي ليس بمجمل إما أن يكون نصا وإما أن يكون ظاهرا . والنص هو الذي لا يحتمل التأويل ، والظاهر هو الذي يحتمله . فهذا القدر قد عرفته على الجملة ، وبقي عليك الآن أن تعرف الاختلاف في إطلاق لفظ النص وأن تعرف حده وحد الظاهر وشرط التأويل المقبول . فنقول : النص اسم مشترك يطلق في تعارف العلماء على ثلاثة أوجه :
الأول : ما أطلقه رحمه الله فإنه سمى الظاهر نصا ; وهو منطبق على اللغة ولا مانع منه في الشرع ، والنص في اللغة بمعنى الظهور ، تقول الشافعي العرب : نصت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته ، وسمي الكرسي منصة إذ تظهر عليه العروس ، وفي الحديث : { } فعلى هذا حده الظاهر هو اللفظ الذي يغلب على الظن فهم معنى منه من غير قطع ، فهو بالإضافة إلى ذلك المعنى الغالب ظاهر ونص . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد فرجة نص
الثاني : الأشهر : ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا لا على قرب ولا على بعد ، كالخمسة مثلا فإنه نص في معناه لا يحتمل الستة ولا الأربعة وسائر الأعداد ، ولفظ الفرس لا يحتمل الحمار والبعير وغيره .
فكل ما كانت دلالته على معناه في هذه الدرجة سمي بالإضافة إلى معناه نصا في طرفي الإثبات والنفي ، أعني في إثبات المسمى ونفي ما لا ينطلق عليه الاسم . فعلى هذا حده اللفظ الذي يفهم منه على القطع معنى فهو بالإضافة إلى معناه المقطوع به نص . ويجوز أن يكون اللفظ الواحد نصا ظاهرا مجملا لكن بالإضافة إلى ثلاثة معان لا إلى معنى واحد .
الثالث : التعبير بالنص عما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل ، أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل فلا يخرج اللفظ عن كونه نصا ; فكان شرط النص بالوضع الثاني أن لا يتطرق إليه احتمال أصلا ، وبالوضع الثالث أن لا يتطرق إليه احتمال مخصوص وهو المعتضد بدليل . ولا حجر في إطلاق اسم النص على هذه المعاني الثلاثة لكن الإطلاق الثاني أوجه وأشهر وعن الاشتباه بالظاهر أبعد . هذا هو ; أما القول في النص والظاهر فيستدعي تمهيد أصل وضرب أمثلة . القول في التأويل
أما التمهيد : فهو أن التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر ، ويشبه أن يكون كل تأويل صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز ، وكذلك تخصيص العموم يرد اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز ، فإنه إن ثبت أن وضعه وحقيقته للاستغراق فهو مجاز في الاقتصار على البعض فكأنه رد له إلى المجاز ، إلا أن الاحتمال تارة يقرب وتارة يبعد فإن قرب كفى في إثباته دليل قريب ، وإن لم يكن بالغا في القوة ، وإن كان بعيدا افتقر إلى دليل قوي يجبر بعده حتى يكون ركوب ذلك الاحتمال البعيد أغلب على الظن من مخالفة ذلك الدليل .
وقد يكون ذلك الدليل قرينة وقد يكون قياسا وقد يكون ظاهرا آخر أقوى منه ، ورب تأويل لا ينقدح إلا بتقدير قرينة ، وإن لم تنقل القرينة كقوله عليه السلام : { } فإنه يحمل على مختلفي الجنس ، ولا ينقدح هذا التخصيص إلا بتقدير واقعة وسؤال عن مختلفي الجنس ، ولكن يجوز تقدير [ ص: 197 ] مثل هذه القرينة إذا اعتضد بنص ، وقوله عليه السلام : { إنما الربا في النسيئة } نص في إثبات ربا الفضل ، وقوله : { لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء } حصر للربا في النسيئة ونفي لربا الفضل ; فالجمع بالتأويل البعيد الذي ذكرناه أولى من مخالفة النص . ولهذا المعنى كان الاحتمال البعيد كالقريب في العقليات ، فإن دليل العقل لا تمكن مخالفته بوجه ما ، والاحتمال البعيد يمكن أن يكون مرادا باللفظ بوجه ما ، فلا يجوز التمسك في العقليات إلا بالنص بالوضع الثاني وهو الذي لا يتطرق إليه احتمال قريب ولا بعيد . إنما الربا في النسيئة
ومهما كان الاحتمال قريبا وكان الدليل أيضا قريبا وجب على المجتهد الترجيح والمصير إلى ما يغلب على ظنه ، فليس كل تأويل مقبولا بوسيلة كل دليل بل ذلك يختلف ولا يدخل تحت ضبط ، إلا أنا نضرب أمثلة فيما يرتضى من التأويل وما لا يرتضى ونرسم في كل مثال مسألة ونذكر لأجل المثال عشر مسائل خمسة في تأويل الظاهر وخمسة في تخصيص العموم .