مسألة صار ما اتفقوا عليه إجماعا قاطعا عند من شرط انقراض العصر ويخلص من الإشكال . أما نحن إذا لم يشترط فالإجماع الأول ولو في لحظة قد تم على تسويغ الخلاف ، فإذا رجعوا إلى أحد القولين فلا يمكننا في هذه الصورة أن إذا اختلفت الأمة على قولين ثم رجعوا إلى قول واحد نقول : هم بعض الأمة في هذه المسألة كما ذكرناه في اتفاق التابعين على أحد قولي الصحابة فيعظم الإشكال .
وطرق الخلاص عنه خمسة : أحدهما : أن نقول هذا محال وقوعه وهو كفرض إجماعهم على شيء ثم رجوعهم بأجمعهم إلى خلافه ، أو اتفاق التابعين على خلافه والشارطون لانقراض العصر يتخذون هذه المسألة عمدة لهم ويقولون مثلا : إذا اختلفوا في مسألة النكاح بلا ولي فمن ذهب إلى بطلانه جاز له أن يصر عليه فلم لا يجوز للآخرين أن يوافقوه مهما أظهر لهم دليل البطلان ؟ وكيف يحجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يوافق مخالفه ؟ قلنا : هذا استبعاد محض ، ونحن نحيل ذلك ; لأنه يؤدي إلى تناقض الإجماعين ، فإن الإجماع الأول قد دل على تسويغ الخلاف وعلى إيجاب التقليد على كل عامي لمن شاء من المجتهدين ، ولا يكون الاتفاق على تسويغ ذلك إلا عن دليل قاطع أو كالقاطع في تجويزه ، وكيف يتصور رفعه ، وإحالة وقوع هذا التناقض في الإجماعين أقرب من التحكم باشتراط العصر ؟ ثم يبقى الإشكال في اتفاق التابعين بعد انقراض العصر الأول على اختلاف قولين .
ثم لا خلاف في أنه يجوز الرجوع إلى أحدهما في القطعيات كما رجعوا إلى قتال المانعين للزكاة بعد الخلاف وإلى أن الأئمة من قريش ; لأن كل فريق يؤثم مخالفه ولا يجوز مذهبه بخلاف المجتهدات ، فإن الخلاف فيها مقرون بتجويز الخلاف وتسويغ الأخذ بكل مذهب أدى إليه الاجتهاد من المذهبين . والمخلص الثاني اشتراط انقراض العصر ، وهو مشكل فإن اشتراطه تحكم . والمخلص الثالث اشتراط كون الإجماع مستندا إلى قاطع لا إلى قياس واجتهاد ، فإن من شرط هذا يقول لا يحصل من اختلافهم إجماع على جواز كل مذهب بل ذلك أيضا مستند إلى اجتهاد ، فإذا رجعوا إلى واحد فالنظر إلى ما اتفقوا عليه لتعين الحق بدليل قاطع في أحد المذهبين ، وهو [ ص: 157 ] مشكل ; لأنه لو فتح هذا الباب لم يكن التعلق بالإجماع إذ ما من إجماع إلا ويتصور أن يكون عن اجتهاد ، فإذا انقسم الإجماع إلى ما هو حجة وإلى ما ليس بحجة ولا فاصل سقط التمسك به وخرج عن كونه حجة ، فإنه إن ظهر لنا القاطع الذي هو مستندهم فيكون الحكم مستقلا بذلك القاطع ومستندا إليه لا إلى الإجماع ، ولأن قوله عليه السلام : { لا تجتمع أمتي على الخطأ } لم يفرق بين إجماع وإجماع .
ولا يتخلص من هذا إلا من أنكر تصور الإجماع عن اجتهاد ، وعند ذلك يناقض آخر كلامه وله حيث قال : اتفاقهم على تسويغ الخلاف مستنده الاجتهاد . المخلص الرابع : أن يقال : النظر إلى الاتفاق الأخير فأما في الابتداء فإنما جوز الخلاف بشرط أن لا ينعقد إجماع على تعيين الحق في واحد . وهذا مشكل ، فإنه زيادة شرط في الإجماع والحجج القاطعة لا تقبل الشرط الذي يمكن أن يكون وأن لا يكون ، ولو جاز أن يقال الإجماع الثاني ليس بحجة بل إنما يكون حجة بشرط أن لا يكون اتفاقا بعد اختلاف ، وهذا أولى ; لأنه يقطع عن الإجماع الشرط المحتمل . المخلص الخامس : هذا وهو أن الأخير ليس بحجة ولا يحرم القول المهجور ; لأن الإجماع إنما يكون حجة بشرط أن لا يتقدم اختلاف ، فإذا تقدم لم يكن حجة .
وهذا أيضا مشكل ; لأن قوله عليه السلام : { لا تجتمع أمتي على الخطأ } يحسم باب الشرط ويوجب كون كل إجماع حجة كيف ما كان ، فيكون كل واحد من الإجماعين حجة ويتناقض ، فلعل الأولى الطريق الأول ، وهو أن هذا لا يتصور ; لأنه يؤدي إلى التناقض ، وتصويره كتصوير رجوع أهل الإجماع عما أجمعوا عليه ، وكتصوير اتفاق التابعين على خلاف إجماع الصحابة وذلك مما يمتنع وقوعه بدليل السمع فكذلك هذا . فإن قيل : فإذا ذهب جميع الأمة من الصحابة إلى العول إلا وإلى منع بيع أمهات الأولاد إلا ابن عباس ، فإذا ظهر لهما الدليل على العول وعلى منع البيع فلم يحرم عليهما الرجوع إلى موافقة سائر الأمة ، وكيف يستحيل أن يظهر لهما ما ظهر للأمة ؟ ومذهبكم يؤدي إلى هذه الإحالة عند سلوك الطريق الأول . عليا
قلنا : لا إشكال على الطريق الأول إلا هذا ، وسبيل قطعه أن يقال : لا يحرم عليهما الرجوع لو ظهر لهما وجه ذلك ، ولكنا نقول : يستحيل أن يظهر لهما وجه أو يرجعا لا لامتناعه في ذاته لكن لإفضائه إلى ما هو ممتنع سمعا ، والشيء تارة يمتنع لذاته وتارة لغيره كاتفاق التابعين على إبطال القياس وخبر الواحد ، فإنه محال لا لذاته لكن لإفضائه إلى تخطئة الصحابة أو تخطئة التابعين كافة ، وهو ممتنع سمعا والله أعلم .