مسألة : فإن قال قائل : إذا ، فإن رجعوا إليه كان الإجماع الأول باطلا ، وإن أصروا على خلاف الخبر فهو محال لا سيما في حق من يذكره تحقيقا ، وإذا رجع هو كان مخالفا للإجماع ، وإن لم يرجع كان مخالفا للخبر ، وهذا لا مخلص عنه إلا باعتبار انقراض العصر فليعتبر . أجمعت الصحابة على حكم ثم ذكر واحد منهم حديثا على خلافه ورواه قلنا : عنه مخلصان أحدهما : أن هذا فرض محال ، فإن الله يعصم الأمة عن الإجماع على نقيض الخبر أو يعصم الراوي عن النسيان إلى أن يتم الإجماع .
الثاني : أنا ننظر إلى أهل الإجماع ، فإن أصروا تبين أنه حق وأن الخبر إما أن يكون غلط فيه الراوي فسمعه من غير [ ص: 158 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم وظن أنه سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم أو تطرق إليه نسخ لم يسمعه الراوي وعرفه أهل الإجماع ، وإن لم ينكشف لنا ، فإن رجع الراوي كان مخطئا ; لأنه خالف الإجماع وهو حجة قاطعة ، وإن رجع أهل الإجماع إلى الخبر قلنا : كان ما أجمعوا عليه حقا في ذلك الزمان إذ لم يكلفهم الله ما لم يبلغهم ، كما يكون الحكم المنسوخ حقا قبل بلوغ النسخ وكما لو تغير الاجتهاد ، أو يكون كل واحد من الرأيين حقا عند من صوب قول كل مجتهد .
فإن قيل : فإن جاز هذا فلم لا يجوز أن يقال : إذا أجمعت الأمة عن اجتهاد جاز لمن بعدهم الخلاف بل جاز لهم الرجوع فإن ما قالوه كان حقا ما دام ذلك الاجتهاد باقيا ، فإذا تغير تغير الفرض والكل حق ، لا سيما إذا اختلفوا عن اجتهاد ثم رجعوا إلى قول واحد ؟ وهلا قلتم إن ذلك جائز ; لأنهم كانوا يجوزون للذاهب إلى إنكار العول وبيع أم الولد القول به ما غلب ذلك على ظنه ، فإذا تغير ظنه تغير فرضه وحرم عليه ما كان سائغا له ، ولا يكون هذا رفعا للإجماع بل تجويزا للمصير إلى مذهب بشرط غلبة الظن ، فإذا تغير الظن لم يكن مجوزا ويكون هذا مخلصا سادسا في المسألة التي قبل هذه المسألة .
قلنا : ما أجمعوا عليه عن اجتهاد لا يجوز خلافه بعده لا ; لأنه حق فقط لكن ; لأنه حق اجتمعت الأمة عليه ، وقد أجمعت الأمة على أن كل ما أجمعت الأمة عليه يحرم خلافه لا كالحق الذي يذهب إليه الآحاد ، وأما إذا اختلفوا عن اجتهاد فقد اتفقوا على جواز القول الثاني فيصير جواز المصير إليه أمرا متفقا عليه ولا يجوز أن يقيد بشرط بقاء الاجتهاد ، كما لو اتفقوا على قول واحد بالاجتهاد فإنه لا يشترط فيه أن لا يتغير الاجتهاد بل يحرم خلافه مطلقا من غير شرط فكذلك هذا .
فإن قيل : فلو ظهر للتابعين ذلك الخبر على خلاف ما أجمعت الصحابة عليه ونقله إليهم من كان حاضرا عند إجماع أهل الحل والعقد ولم يكن الراوي من أهل الحل والعقد ؟ قلنا : يحرم على التابعين موافقته ويجب عليه اتباع الإجماع القاطع ، فإن خبر الواحد يحتمل النسخ والسهو والإجماع لا يحتمل ذلك .