الباب الرابع . في مستند الراوي وكيفية ضبطه
ومستنده إما قراءة الشيخ عليه ، أو قراءته على الشيخ ، أو إجازته ، أو مناولته ، أو رؤيته بخطه في كتاب ، فهي خمس مراتب .
الأولى : وهي الأعلى : قراءة الشيخ في معرض الإخبار ليروى عنه وذلك يسلط الراوي على أن يقول " حدثنا " و " أخبرنا " و " قال فلان " و " سمعته يقول " .
الثانية : أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت ، فهو كقول " هذا صحيح " فتجوز الرواية به خلافا لبعض أهل الظاهر ; إذ لو لم يكن صحيحا لكان سكوته وتقريره عليه فسقا قادحا في عدالته ، ولو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكذب إذا نطق بكونه صحيحا .
نعم لو كان ثم مخيلة قلة اكتراث أو غفلة فلا يكفي السكوت ، وهذا يسلط الراوي على أن يقول " أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه " . أما قوله حدثنا " مطلقا أو " سمعت فلانا اختلفوا فيه ، والصحيح أنه لا يجوز لأنه يشعر بالنطق ; لأن الخبر والحديث والمسموع كل ذلك نطق ، وذلك منه كذب إلا إذا علم بصريح قوله أو بقرينة حاله أنه يريد به القراءة على الشيخ دون سماع حديثه .
الثالثة : الإجازة ، وهو أن يقول : " أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني أو ما صح عندك من مسموعاتي " وعند ذلك يجب الاحتياط في تعيين المسموع ، أما إذا اقتصر على قوله : " هذا مسموعي من فلان " فلا تجوز الرواية عنه ; لأنه لم يأذن في الرواية ، فلعله لا يجوز الرواية لخلل يعرفه فيه وإن سمعه ، وكذلك لو قال : " عندي شهادة " لا يشهد ما لم يقل : " أذنت لك في أن تشهد على شهادتي " أو لم تقم تلك الشهادة في مجلس الحكم ; لأن الرواية شهادة والإنسان قد يتساهل في الكلام ، لكن عند جزم الشهادة قد يتوقف .
ثم الإجازة تسلط الراوي على أن يقول : حدثنا وأخبرنا إجازة . أما قوله : " حدثنا " مطلقا جوزه قوم ، وهو فاسد لأنه يشعر بسماع كلامه وهو كذب كما ذكرناه في القراءة على الشيخ .
الرابعة : المناولة ، وصورته أن يقول : " خذ هذا الكتاب وحدث به عني فقد سمعته من فلان " ومجرد المناولة دون هذا اللفظ لا معنى له ، وإذا وجد هذا اللفظ فلا معنى للمناولة فهو زيادة تكلف أحدثه بعض المحدثين بلا فائدة ، كما يجوز رواية الحديث بالإجازة فيجب العمل به خلافا لبعض أهل الظاهر ; لأن المقصود معرفة صحة الخبر لا عين الطريق المعرف .
وقوله : " هذا الكتاب مسموعي فاروه عني " في التعريف كقراءته والقراءة عليه ، وقولهم : " إنه قادر على أن يحدثه به " فهو كذلك ، لكن أي حاجة إليه ؟ ويلزم أن لا تصح القراءة عليه لأنه قادر على القراءة بنفسه ، ويجب أن لا يروي في حياة الشيخ لأنه قادر على الرجوع إلى الأصل كما في الشهادة ، فدل أن هذا لا يعتبر في الرواية . الخامسة : الاعتماد على الخط بأن يرى مكتوبا بخطه " إني سمعت على فلان كذا " فلا يجوز أن يروي عنه لأن روايته شهادة عليه بأنه قاله .
والخط لا يعرفه هذا ، نعم يجوز أن يقول : " رأيت مكتوبا في كتاب بخط ظننت أنه خط فلان " ، فإن الخط أيضا قد يشبه الخط . أما إذا قال : " هذا خطي " قبل قوله : " ولكن " لا يروي عنه ما لم يسلطه على الرواية بصريح قوله أو بقرينة حاله في الجلوس لرواية الحديث .
أما " مثلا فرأى فيه حديثا ، فليس له أن يروي عنه ، لكن هل يلزمه العمل ؟ البخاري إن كان مقلدا فعليه أن يسأل المجتهد ، وإن كان مجتهدا فقال قوم : لا يجوز له العمل به ما لم يسمعه . وقال قوم : إذا علم صحة النسخة بقول عدل جاز العمل ، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون صحف الصدقات إلى البلاد وكان الخلق يعتمدون تلك الصحف بشهادة حامل الصحف بصحته دون أن يسمعه كل واحد منه ، فإن ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن . إذا [ ص: 132 ] قال عدل : " هذه نسخة صحيحة من صحيح
وعلى الجملة فلا ينبغي أن يروي إلا ما يعلم سماعه أولا وحفظه وضبطه إلى وقت الأداء ، بحيث يعلم أن ما أداه هو الذي سمعه ولم يتغير منه حرف ، فإن شك في شيء منه فليترك الرواية .