فجئت وقد نضت لنوم ثيابها لدى الستر إلا لبسة المتفضل فقالت : يمين الله ما لك حيلة
وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
انظر إلى البيت الأول والأبيات التي قبله ، كيف خلط في النظم ؛ وفرط في التأليف ! فذكر التمتع بها ، وذكر الوقت والحال والحراس - ثم ذكر كيف كان صفتها لما دخل عليها ووصل إليها ، من نزعها ثيابها إلا ثوبا واحدا ، والمتفضل : الذي في ثوب واحد ، وهو الفضل ، فما كان من سبيله أن يقدمه إنما ذكره مؤخرا .
وقوله : " لدى الستر " : حشو ، وليس بحسن ولا بديع ، وليس في البيت حسن ، ولا شيء يفضل لأجله .
وأما البيت الثاني ففيه تعليق واختلال ، ذكر أن معنى قوله : " ما لك حيلة " ، أي ليست لك جهة تجيء فيها والناس أحوالي . الأصمعي
والكلام في المصراع الثاني منقطع عن الأول ، ونظمه إليه فيه ضرب من التفاوت .
* * *
وقوله :
فقمت بها أمشي تجر وراءنا على إثرنا أذيال مرط مرجل
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
البيت الأول يذكر من محاسنه : من مساعدتها إياه ، حتى قامت معه ليخلوا ، وأنها كانت تجر على الإثر أذيال مرط مرجل ، والمرجل : ضرب من البرود ، يقال لوشيه : الترجيل ، وفيه تكلف . لأنه قال : " وراءنا على [ ص: 177 ] إثرنا " ، ولو قال " على إثرنا " كان كافيا ، والذيل إنما يجر وراء الماشي ، فلا فائدة لذكره " وراءنا " ، وتقدير القول : فقمت أمشي بها ، وهذا أيضا ضرب من التكلف .
وقوله " أذيال مرط " ، كان من سبيله أن يقول : ذيل مرط .
على أنه لو سلم من ذلك كان قريبا ليس مما يفوت بمثله غيره ، ولا يتقدم به سواه . وقول أحسن منه : ابن المعتز
فبت أفرش خدي في الطريق له ذلا وأسحب أكمامي على الأثر
وأما البيت الثاني فقوله " أجزنا " بمعنى " قطعنا " ، و " الخبت " : بطن من الأرض ، و " الحقف " : رمل منعرج ، و " العقنقل " : المنعقد من الرمل الداخل بعضه في بعض .
وهذا بيت متفاوت مع الأبيات المتقدمة ؛ لأن فيها ما هو سلس قريب يشبه كلام المولدين وكلام البذلة ، وهذا قد أغرب فيه وأتى بهذه اللفظة الوحشية المتعقدة ، وليس في ذكرها والتفضيل بإلحاقها بكلامه فائدة .
والكلام الغريب واللفظة الشديدة المباينة لنسج الكلام قد تحمد إذا وقعت موقع الحاجة في وصف ما يلائمها ، كقوله - عز وجل - في وصف يوم القيامة : يوما عبوسا قمطريرا . فأما إذا وقعت في غير هذا الموقع ، فهي مكروهة مذمومة ، بحسب ما تحمد في موضعها .
وروي أن أنشد بعض خلفاء بني أمية قصيدته : جريرا
بان الخليط برامتين فودعوا أوكلما جدوا لبين تجزع ؟
كيف العزاء ولم أجد مذ بنتم قلبا يقر ولا شرابا ينقع
قال : وكان يزحف من حسن هذا الشعر ، حتى بلغ قوله :
وتقول بوزع : قد دببت على العصا هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
[ ص: 178 ] فقال : أفسدت شعرك بهذا الاسم ! !
* * *
وأما قوله :
هصرت بغصني دوحة فتمايلت علي هضيم الكشح ريا المخلخل
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل
فمعنى قوله " هصرت " : جذبت وثنيت .
وقوله " بغصني دوحة " ، تعسف ، ولم يكن من سبيله أن يجعلهما اثنين .
والمصراع الثاني أصح ، وليس فيه شيء إلا ما يتكرر على ألسنة الناس من هاتين الصفتين . وأنت تجد ذلك في وصف كل شاعر ، ولكنه - مع تكرره على الألسن - صالح .
وأما معنى قوله " مهفهفة " : أنها مخففة ليست مثقلة .
و " المفاضة " : التي اضطرب طولها .
والبيت - مع مخالفته في الطبع الأبيات المتقدمة ، ونزوعه فيه إلى الألفاظ المستكرهة ، وما فيه من الخلل ، من تخصيص الترائب بالضوء ، بعد ذكر جميعها بالبياض - فليس بطائل ، ولكنه قريب متوسط .
* *