[ ص: 573 ]
الرسالة الشافية في الإعجاز
تأليف
عبد القاهر الجرجاني
توفي سنة 471 أو سنة 474 هجرية
[ ص: 574 ]
[ ص: 575 ] الرسالة الشافية في وجوه الإعجاز
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ رضي الله عنه : الحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين ، وصلواته على النبي عبد القاهر بن عبد الرحمن محمد وآله أجمعين.
1 - اعلم أن لكل نوع من المعنى نوعا من اللفظ هو به أخص وأولى ، وضروبا من العبارة هو بتأديته أقوم ، وهو فيه أجلى ، ومأخذا إذا أخذ منه كان إلى الفهم أقرب ، وبالقبول أخلق ، وكان السمع له أوعى ، والنفس إليه أميل، وإذا كان الشيء متعلقا بغيره ، ومقيسا على ما سواه ، كان من خير ما يستعان به على تقريبه من الأفهام ، وتقريره في النفوس ، أن يوضع له مثال يكشف عن جهة ويؤنس به ، ويكون زماما عليه يمسكه على المتفهم له والطالب علمه.
2 - وهذه ، ومتجاوز للذي يتسع له ذرع المخلوقين وفيما يتصل بذلك مما له اختصاص بعلم أحوال الشعراء والبلغاء ومراتبهم ، وبعلم الأدب جملة- قد تحريت فيه الإيضاح والتبيين ، وحذوت الكلام حذوا هو بعرف علماء العربية أشبه ، وفي طريقهم أذهب ، وإلى الأفهام جملة أقرب . وأسأل الله التوفيق للصواب والعون عليه ، والإرشاد إلى كل ما يزلف لديه ، إنه على ما يشاء قدير. جمل من القول في بيان عجز العرب حين تحدوا إلى معارضة القرآن ، وإذعانهم وعلمهم أن الذي سمعوه فائت للقوى البشرية
3 - معلوم أن سبيل الكلام سبيل ما يدخله التفاضل ، وأن للتفاضل فيه غايات ينأى بعضها عن بعض ، ومنازل يعلو بعضها بعضا ، وأن علم ذلك علم يخص أهله ، وأن الأصل والقدوة فيه العرب ، ومن عداهم تبع لهم ، وقاصر فيه عنهم ،
[ ص: 576 ]
وأنه لا يجوز أن يدعى للمتأخرين من الخطباء والبلغاء عن زمان النبي صلى الله عليه وسلم الذي نزل فيه الوحي ، وكان فيه التحدي ، أنهم زادوا على أولئك الأولين ، أو كملوا في علم البلاغة أو تعاطيها لما لم يكملوا له . كيف؟ ونحن نراهم يحملون عنهم أنفسهم ، ويبرأون من دعوى المداناة معهم ، فضلا عن الزيادة عليهم.
هذا يقول : "كيف نجاريهم وإنما نحكيهم؟ أم كيف نسابقهم ، وإنما نجري على ما سبق إلينا من أعراقهم؟ ". خالد بن صفوان
ونرى يدعي الجاحظ ، ويناظر في ذلك الشعوبية ، ويجهلهم ويسفه أحلامهم في إنكارهم ذلك ، ويقضي عليهم بالشقوة وبالتهالك في العصبية ، ويطيل ويطنب ، ثم يقول : للعرب الفضل على الأمم كلها في الخطابة والبلاغة
"ونحن أبقاك الله إذا ادعينا للعرب الفضل على الأمم كلها في أصناف البلاغة ، من القصيد والأرجاز ، ومن المنثور والأسجاع ، ومن المزدوج وما لا يزدوج ، فمعنا- على أن ذلك لهم- شاهد صادق ، من الديباجة الكريمة ، والرونق العجيب ، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك ، إلا في اليسير والشيء القليل" انتهى كلامه.
[ ص: 577 ]
والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى ، أو أن ينكره إلا جاهل أو معاند.
4 - وإذا ثبت أنهم الأصل والقدوة ، فإن علمهم العلم . فبنا أن ننظر في دلائل أحوالهم وأقوالهم حين تلي عليهم القرآن وتحدوا إليه ، وملئت مسامعهم من المطالبة بأن يأتوا بمثله ، ومن التقريع بالعجز عنه ، وبت الحكم بأنهم لا يستطيعونه ولا يقدرون عليه.
وإذا نظرنا وجدناها تفصح بأنهم لم يشكوا في عجزهم عن معارضته والإتيان بمثله ، ولم تحدثهم أنفسهم بأن لهم إلى ذلك سبيلا على وجه من الوجوه.
5 - أما "الأحوال" فدلت من حيث كان المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف ، وطبائعهم التي لا تتبدل ، أن لا يسلموا لخصومهم الفضيلة وهم يجدون سبيلا إلى دفعها ، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم . كيف؟ وإن الشاعر أو الخطيب أو الكاتب يبلغه أن بأقصى الإقليم الذي هو فيه من يبأى بنفسه ، ويدل بشعر يقوله ، أو خطبة يقوم بها ، أو رسالة يعملها ، فيدخله من الأنفة والحمية ما يدعوه إلى معارضته ، وإلى أن يظهر ما عنده من الفضل ، ويبذل ما لديه من المنة ، حتى إنه ليتوصل إلى أن يكتب إليه ، وأن يعرض كلامه عليه ، ببعض العلل وبنوع من التمحل . هذا ، وهو لم ير [ ص: 578 ]
ذلك الإنسان قط ، ولم يكن منه إليه ما يهز ويحرك ويهيج على تلك المعارضة ، ويدعو إلى ذلك التعرض.
وإن كان المدعي ذلك بمرأى منه ومسمع ، كان ذلك أدعى له إلى مباراته ، وإلى إظهار ما عنده ، وإلى أن يعرف الناس أنه لا يقصر عنه ، أو أنه منه أفضل.
فإن انضاف إلى ذلك أن يدعوه الرجل إلى مماتنته ، ويحركه لمقاولته ، فذلك الذي يسهر ليله ويسلبه القرار ، حتى يستفرغ مجهوده في جوابه ، ويبلغ أقصى الحد في مناقضته.
وقد عرفت قصة جرير ، وكل شاعرين جمعهما عصر ، ثم عرض بينهما ما يهيج على المقاولة ، ويدعو إلى المفاخرة والمنافرة ، كيف جد كل واحد منهما في مغالبة الآخر ، وكيف جعل ذلك همه ووكده ، وقصر عليه دهره؟ هذا ، وليس به ، ولا يخشى ، إلا أن يقضي لصاحبه بأنه أشعر منه ، وأن خاطره أحد ، وقوافيه أشرد ، لا ينازعه ملكا ، ولا يفتات عليه بغلبته له حقا ، ولا يلزمه به إتاوة ، ولا يضرب عليه ضريبة؟ والفرزدق
6 - وإذا كان هذا واجبا بين نفسين لا يروم أحدهما من مباهاة صاحبه إلا ما يجري على الألسن من ذكره بالفضل فقط ، فكيف يجوز أن يظهر في صميم العرب ، وفي مثل قريش ذوي الأنفس الأبية والهمم العلية ، والأنفة والحمية من يدعي النبوة ، ويخبر أنه مبعوث من الله تعالى إلى الخلق كافة ، وأنه بشير بالجنة [ ص: 579 ]
ونذير بالنار ، وأنه قد نسخ به كل شريعة تقدمته ، ودين دان به الناس شرقا وغربا ، وأنه خاتم النبيين ، وأنه لا نبي بعده ، إلى سائر ما صدع به صلى الله عليه وسلم ، ثم يقول : "وحجتي أن الله تعالى قد أنزل على كتابا عربيا مبينا ، تعرفون ألفاظه ، وتفهمون معانيه ، إلا أنكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله ، ولا بعشر سور منه ، ولا بسورة واحدة ، ولو جهدتم جهدكم ، واجتمع معكم الجن والإنس" ثم لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضوه ، ويبينوا سرفه في دعواه ، مع إمكان ذلك ، ومع أنهم لم يسمعوا إلا ما عندهم مثله أو قريب منه؟
هذا ، وقد بلغ بهم الغيظ من مقالته ، ومن الذي ادعاه ، حدا تركوا معه أحلامهم الراجحة ، وخرجوا له عن طاعة عقولهم الفاضلة ، حتى واجهوه بكل قبيح ، ولقوه بكل أذى ومكروه ، ووقفوا له بكل طريق ، وكادوه وكل من تبعه بضروب المكايدة ، وأرادوهم بأنواع الشر.
وهو سمع قط بذي عقل ومسكة استطاع أن يخرس خصما له قد اشتط في دعواه بكلمة يجيبه بها ، فترك ذلك إلى أمور يسفه فيها ، وينسب معها إلى ضيق الذرع والعجز ، وإلى أنه مغلوب قد أعوزته الحيلة ، وعسر عليه المخلص؟
أم هل عرف في مجرى العادات ، وفي دواعي النفوس ومبنى الطبائع ، أن يدع الرجل ذو اللب حجته على خصمه ، فلا يذكرها ، ولا يفصح بها ، ولا يجلي عن وجهها ، ولا يريه الغلط فيما قال ، والكذب فيما ادعى ، لا ، ولا يدعي أن ذلك [ ص: 580 ]
عنده ، وأنه مستطيع له ، بل يجعل أول جوابه له ومعارضته إياه ، التسرع إليه والسفه عليه ، والإقدام على قطع رحمه ، وعلى الإفراط في أذاه؟
أم هل يجوز أن يخرج خارج من الناس على قوم لهم رياسة ، ولهم دين ونحلة ، فيؤلب عليهم الناس ، ويدبر في إخراجهم من ديارهم وأموالهم ، وفي قتل صناديدهم وكبارهم ، وسبي ذراريهم وأولادهم ، وعمدته التي يجد بها السبيل إلى تألف من يتألفه ، ودعاء من يدعوه ، دعوى له ، إذا هي أبطلت بطل أمره كله ، وانتقض عليه تدبيره ثم لا يعرض له في تلك الدعوى ، ولا يشتغل بإبطالها ، مع إمكان ذلك ، ومع أنه ليس بمتعذر ولا ممتنع؟
وهل مثل هذا إلا مثل رجل عرض له خصم من حيث لم يحتسبه ، فادعى عليه دعوى إن هي سمعت كان منها على خطر في ماله ونفسه ، فأحضر بينة على دعواه تلك ، وعند هذا المدعي عليه ما يبطل تلك البينة أو يعارضها ، وما يحول على الجملة بينه وبين تنفيذ دعواه ، فيدع إظهار ذلك والاحتجاج به ، ويضرب عنه جملة ، ويدعه وما يريد من إحكام أمره وإتمامه ، ثم يصير الحال بينهما إلى المحاربة ، وإلى الإخطار بالمهج والنفوس ، فيطاوله الحرب ، ويقتل فيها أولاده وأعزته ، وتنهك عشيرته ، وتغنم أمواله ، ولا يقع له في أثناء تلك الحال أن يرجع إلى القاضي الذي قضى لخصمه بديا ، ولا إلى القوم الذين سمعوا منه وتصوروه بصورة المحق فيقول : "لقد كانت عندي حين ادعى ما ادعى- بينة على فساد دعواه وعلى كذب شهوده ، قد تركتها تهاونا بأمره ، أو أنسيتها ، أو منع مانع دون [ ص: 581 ]
عرضها ، وها هي هذه قد جئتكم بها ، فانظروا فيها لتعلموا أنكم قد غررتم؟ " ومعلوم بالضرورة أن هذا الرجل لو كان من المجانين ، لما صح أن يفعل ذلك ، فكيف بقوم هم أرجح أهل زمانهم عقولا ، وأكملهم معرفة ، وأجزلهم رأيا ، وأثقبهم بصيرة؟ فهذه دلالة "الأحوال" .
7 - وأما "الأقوال" فكثيرة :
منها حديث ابن المغيرة ، روي أنه جاء حتى أتى قريشا فقال : إن الناس يجتمعون غدا بالموسم ، وقد فشا أمر هذا الرجل في الناس ، فهم سائلوكم عنه فماذا تردون عليهم؟ فقالوا : مجنون يخنق . فقال : يأتونه فيكلمونه فيجدونه صحيحا فصيحا عاقلا ، فيكذبونكم! قالوا نقول : هو شاعر . قال : هم العرب ، وقد رووا الشعر ، وفيهم الشعراء ، وقوله ليس يشبه الشعر ، فيكذبونكم! قالوا نقول : هو كاهن . قال : إنهم لقوا الكهان ، فإذا سمعوا قوله لم يجدوه يشبه الكهنة ، فيكذبونكم!
ثم انصرف إلى منزله فقالوا : صبأ الوليد يعنون : أسلم ، ولئن صبأ لا يبقى أحد إلا صبأ . فقال لهم ابن أخيه أبو جهل بن هشام بن المغيرة : أنا [ ص: 582 ]
أكفيكموه . قال : فأتاه مخزونا فقال : ما لك يا ابن أخ؟ قال : هذه قريش تجمع لك صدقة يتصدقون بها عليك ، تستعين بها على كبرك وحاجتك . قال : أولست أكثر قريش مالا؟! قال : بلى ، ولكنهم يزعمون أنك صبأت لتصيب من فضل طعام محمد وأصحابه . قال : والله ما يشبعون من الطعام ، فكيف يكون لهم فضول؟!
ثم أتى قريشا فقال : أتزعمون أني صبأت؟ ولعمري ما صبأت ، إنكم قلتم : محمد مجنون ، وقد ولد بين أظهركم لم يغب عنكم ليلة ولا يوما، فهل رأيتموه يخنق قط؟ وقلتم : شاعر؟ وأنتم شعراء ، فهل أحد منكم يقول ما يقول؟ وقلتم : كاهن ، فهل حدثكم محمد في شيء يكون في غد إلا أن يقول إن شاء الله!
قالوا : فكيف تقول يا أبا المغيرة ؟ قال : أقول هو ساحر : فقالوا : وأي شيء السحر؟ قال : شيء يكون ببابل ، من حذقه فرق بين الرجل وامرأته ، والرجل وأخيه ، إنا لله ، أفما تعلمون أن محمدا فرق بين فلان وفلانة زوجته ، وبين فلان وابنه ، وبين فلان وأخيه ، وبين فلان ومواليه ، فلا ينفعهم ولا يلتفت إليهم ولا يأتيهم؟ قالوا : بلى . فاجتمع رأيهم على أن يقولوا إنه ساحر ، وأن يردوا الناس عنه بهذا القول.
وانصرف ، فمر بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منطلقا إلى رحله ، وهم جلوس في المسجد ، فقالوا : هل لك يا أبا المغيرة إلى خير؟ فرجع إليهم فقال : ما ذلك الخير؟ فقال : التوحيد . قال : ما يقول صاحبكم إلا سحرا . وما هو إلا قول البشر يرويه عن غيره . وعبس في وجوههم وبسر ، ثم أدبر إلى أهله مكذبا ، واستكبر عن حديثهم الذي قالوا له وعن الإيمان ، فأنزل الله تعالى : « إنه فكر وقدر ، فقتل كيف قدر » [المدثر : 18 ، 19] ، الآية .
[ ص: 583 ]
8 - ومنه ما رواه قال : حدثت محمد بن كعب القرظي أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا حليما قال يوما : ألا أقوم إلى محمد فأكلمه فأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل منها بعضها ، فنعطيه أيها شاء؟ وذلك حين أسلم رضي الله عنه ، ورأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكثرون قالوا : بلى يا حمزة أبا الوليد! فقام إليه ، وهو صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده ، فقال : يا ابن أخي! إنك منا حيث علمت من السطة في العشيرة ، والمكان في النسب ، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت بين جماعتهم ، وسفهت أحلامهم ، وعبت آلهتهم ، وكفرت من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها ، لعلك أن تقبل منها بعضها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل" . قال : إن كنت إنما تريد المال بما جئت به من هذا القول ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد شرفا سودناك حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي بك رئيا لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ، أو لعل هذا الشعر شعر جاش به صدرك ، فإنكم لعمري بني عبد المطلب تقدرون من ذلك على ما لا نقدر عليه . حتى إذا فرغ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أوقد فرغت"؟ قال : نعم . قال : "فاسمع مني" ، قال : قل . قال : "بسم الله الرحمن الرحيم حم ، تنزيل من الرحمن الرحيم ، كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ، بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون " [فصلت : 1 - 4] ، ثم [ ص: 584 ]
مضى فيها يقرؤها ، فلما سمعها عتبة أنصت له ، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه ، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ، ثم قال له : "قد سمعت ما سمعت فأنت وذاك"!
فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس قالوا : ما وراءك؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت بمثله قط ، وما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني ، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهره على العرب به ، فملكه ملككم ، وكنتم أسعد الناس به . قالوا : سحرك بلسانه! قال : هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم.
9 - ومنه ما جاء في حديث أبي ذر في سبب إسلامه : روي أنه قال : قال لي أخي أنيس : إن لي حاجة إلى مكة ، فانطلق فراث ، فقلت : ما حبسك؟ قال : لقيت رجلا [يقول] إن الله تعالى أرسله . فقلت : فما يقول الناس؟ قال : يقولون شاعر ، ساحر ، كاهن . قال : وكان أبو ذر أنيس أحد الشعراء ، قال : والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد ، ولقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.
[ ص: 585 ]
10 - ومن ذلك ما روي أن ] أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اقرأ . فقرأ عليه : « الوليد [بن عقبة إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون » [النحل : 90] ، فقال : أعد فأعاد ، فقال : "والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمعرق ، وإن أعلاه لمثمر ، وما يقول هذا بشر" .
11 - واعلم أنه لا يجوز أن يقال في هذا وشبهه إنه لا يكون دليلا حتى يكون من قول المشركين بعضهم لبعض ، حين خلوا بأنفسهم فتفاوضوا وتحاوروا وأفضى بعضهم بذات نفسه إلى بعض- وإن كان منه من كلام المؤمنين ، أو ممن قاله ثم آمن ، فإنه لا يصح الاحتجاج به في حكم الجدل ، من حيث يصير كأنك تحتج على الخصم برأي تراه أنت ، وبقول أنت تقوله ، وذلك أنه إنما يمتنع أن يدل إذا صدر القول مصدر الدعوى والشيء يدفعه الخصم وينكره ، فأما ما كان مخرجه مخرج التنبيه على أمر يعرفه ذوو الخبرة ، وأطلقه قائله إطلاق الواثق بأنه معلوم للجمع ، وأنه ليس من بصير يعرف مقادير الفضل والنقص إلا وهو يحوج إلى تسليمه والاعتراف به شاء أم أبى فهو دليل بكل حال ، ومن قول كل قائل ، وحجة من غير مثنوية ، ومن غير أن ينظر إلى قائله أموافق أم مخالف ، ذاك لأن [ ص: 586 ]
الدلالة ليست من نفس القول وذاك الصفة ، بل في مصدرهما ، وفي أن أخرجا مخرج الإخبار عن أمر هو كالشيء البادي للعيون ، لا يعمل أحد بصره إلا رآه.
12 - وإذا رأينا "الأحوال" و "الأقوال" منهم قد شهدت ، كالذي بان ، باستسلامهم للعجز وعلمهم بالعظيم من الفضل والبائن من المزية ، الذي إذا قيس إلى ما يستطيعونه ويقدرون عليه في ضروب النظم وأنواع التصرف ، فاته الفوت الذي لا ينال ، وارتقى إلى حيث لا تطمع إليه الآمال ، فقد وجب القطع بأنه معجز .
ذلك لأنه ليس إلا أحد الأمرين : فإما أن يكونوا قد علموا المزية التي ذكرنا أنهم علموها على الصحة- وإما أن يكونوا قد توهموها في نظم القرآن ، وليست هي فيه لغلط دخل عليهم . ودعوى الثاني من الأمرين سخف ، فإن ذلك لو ظن بالواحد منهم لبعد ، ذلك لأنه لا يتصور أن يتوهم العاقل في نظم كلام ، جل مناه ومنى أصحابه أن يستطيع معارضته ، وأن يقدر على إسكات خصمه المباهي به ، أنه قد بلغ في المزية هذا المبلغ العظيم غلطا وسهوا، ، فكيف بأن يشمل هذا الغلط كلهم ، ويدخل على كافتهم؟ وأي عقل يرضى من صاحبه [ ص: 587 ]
بأن يتوهم عليهم مثل هذا من الغلط ، وهم من إذا ذاق الكلام عرف قائله من قبل أن يذكر ، ويسمع أحدهم البيت قد استرفده الشاعر فأدخله في أثناء شعر له ، فيعرف موضعه وينبه عليه ، كما قال الفرزدق : أهذا شعرك؟ هذا شعر لاكه أشد لحيين منك- إلى ضروب من دقيق المعرفة يقل هذا في جنبها؟ وإذا لم يصح الغلط عليهم ، ولم يجز أن يدعى أنه كان معهم في زمانهم من كان بالأمر أعلم ، وبالذي وقع التحدي إليه أقوم ، فما زالت الشبهة في كونه معجزا له. لذي الرمة
13 - وإن قالوا : فإن ههنا أمرا آخر ، وهو ما علمنا من تقديمهم شعراء الجاهلية على أنفسهم ، وإقرارهم لهم بالفضل ، وإجماعهم في امرئ القيس وزهير والنابغة والأعشى أنهم أشعر العرب . وإذا كان ذلك كذلك ، فمن أين لنا أن نعلم أنهم لم يكونوا بحيث لو تحدوا إلى معارضة القرآن لقاموا بها واستطاعوها؟
قيل لهم : هذا الفصل على ما فيه لا يقدح في موضع الحجة ، وذلك أنهم كانوا ، كما لا يخفى ، يروون أشعار الجاهليين وخطبهم ، ويعرفون مقاديرهم في الفصاحة معرفة من لا تشكل جهات الفضل عليه ، فلو كانوا يرون فيما رووا وحفظوا مزية على القرآن ، أو رأوه قريبا منه ، أو بحيث يجوز أن يعارض بمثله ، أو يقع لهم إذا قاسوا أو ازنوا أن هذا الذي تحدوا إلى معارضته لو تحدي إليه من قبلهم لاستطاعوا أن يأتوا بمثله ، لكانوا يدعون ذلك ويذكرونه ، ولو ذكروه لذكر [ ص: 588 ]
عنهم . ومحال إذا رجعنا إلى أنفسنا واستشففنا حال الناس فيما جبلوا عليه- أن يكونوا قد عرفوا لما تحدوا إليه وقرعوا بالعجز عنه شبها ونظما ، ثم يتلى عليهم : « قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا » [الإسراء : 88] ، فلا يزيدون في جوابه على الصمت ، ولا يقولون : "لقد روينا لمن تقدم ما علمت وعلمنا أنه لا يقصر [عما] أتيت به ، فمن أين استجزت أن تدعي هذه الدعوى"؟
فإذا كان من المعلوم ضرورة أنهم لم يقولوا ذلك ، ولا رأوا أن يقولوه ، ولو على سبيل الدفع والتلبيس والتشعب بالباطل ، بل كانوا بين أمرين : إما أن يخبروا عن أنفسهم بالعجز والقصور ، وذلك حين يخلو بعضهم ببعض ، وكان الحال حال تصادق وإما أن يتعلقوا بما لا يتعلق به إلا من أعورته الحيلة ، ومن فل بالحجة ، من نسبته إلى السحر تارة ، وإلى أنه مأخوذ من فلان وفلان أخرى ، يسمون أقواما مجهولين لا يعرفون بعلم ، ولا يظن بهم أن عندهم علما ليس عند غيرهم ثبت أنهم قد كانوا علموا أن صورة أولئك الأوائل صورتهم ، وأن التقدير فيهم أنهم لو كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم تحدوا إلى معارضته ، لكانوا في مثل حال هؤلاء الكائنين في زمانه حالهم . وإذا كان هذا هكذا ، فقد انتفى الشك ، وحصل اليقين الذي تسكن معه النفس ، ويطمئن [ ص: 589 ]
عنده القلب ، أنه معجز ناقض للعادة ، وأنه في معنى قلب العصا حية ، وإحياء الموتى ، في ظهور الحجة به على الخلق كافة ، وبان أن قد سعد المؤمنون وخسر المبطلون . والحمد لله رب العالمين على أن هدانا لدينه ، وأنار قلوبنا ببرهانه ودليله ، وإياه جل وعز نسأل التثبيت على ما هدى له ، وإتمام النعمة بإدامة ما خوله ، بفضله ومنه .