[ ص: 1 ]
[ ص: 2 ]
[ ص: 3 ]
دلائل الإعجاز
بسم الله الرحمن الرحيم
فاتحة المصنف في مكانة العلم
حسبي ربي
خطبة الكتاب
الحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين ، نحمده على عظيم نعمائه وجميل بلائه ، ونستكفيه نوائب الزمان ونوازل الحدثان ، ونرغب إليه في التوفيق والعصمة ، ونبرأ إليه من الحول والقوة ، ونسأله يقينا يملأ الصدر ويعمر القلب ، ويستولي على النفس حتى يكفها إذا نزغت ويردها إذا تطلعت . وثقة بأنه عز وجل الوزر والكالئ والراعي والحافظ ، وأن الخير والشر بيده ، وأن النعم كلها من عنده ، وأن لا سلطان لأحد مع سلطانه ، نوجه رغباتنا إليه ، ونخلص نياتنا في التوكل عليه ، وأن يجعلنا ممن همه الصدق ، وبغيته الحق وغرضه الصواب ، وما تصححه العقول وتقبله الألباب ، ونعوذ به من أن ندعي العلم بشيء لا نعلمه ، وأن نسدي قولا لا نلحمه ، وأن نكون ممن يغره الكاذب من الثناء ، وينخدع للمتجوز في الإطراء ، وأن يكون سبيلنا سبيل من يعجبه أن يجادل بالباطل ، ويموه على السامع ، ولا يبالي إذا [ ص: 4 ] راج عنه القول أن يكون قد خلط فيه ولم يسدد في معانيه . ونستأنف الرغبة إليه عز وجل في الصلاة على خير خلقه ، والمصطفى من بريته محمد سيد المرسلين ، وعلى أصحابه الخلفاء الراشدين ، وعلى آله الأخيار من بعدهم أجمعين .
بيان فضل العلم
1- وبعد فإنا إذا تصفحنا الفضائل لنعرف منازلها في الشرف ، ونتبين مواقعها من العظم ، ونعلم أي أحق منها بالتقديم وأسبق في استيجاب التعظيم ، وجدنا العلم أولاها بذلك وأولها هنالك ، إذ لا شرف إلا وهو السبيل إليه ، ولا خير إلا وهو الدليل عليه ، ولا منقبة إلا وهو ذروتها وسنامها ، ولا مفخرة إلا وبه صحتها وتمامها ، ولا حسنة إلا وهو مفتاحها ، ولا محمدة إلا ومنه يتقد مصباحها ، هو الوفي إذا خان كل صاحب ، والثقة إذا لم يوثق بناصح ، لولاه لما بان الإنسان من سائر الحيوان إلا بتخطيط صورته وهيئة جسمه وبنيته ، لا ، ولا وجد إلى اكتساب الفضل طريقا ، ولا وجد بشيء من المحاسن خليقا .
ذاك لأنا وإن كنا لا نصل إلى اكتساب فضيلة إلا بالفعل ، وكان لا يكون فعل إلا بالقدرة ، فإنا لم نر فعلا زان فاعله وأوجب الفضل له ، حتى يكون عن العلم صدره ، وحتى يتبين ميسمه عليه وأثره . ولم نر قدرة قط كسبت صاحبها مجدا وأفادته حمدا دون أن يكون العلم رائدها فيما تطلب، وقائدها حيث يؤم ويذهب ويكون المصرف لعنانها والمقلب لها في ميدانها، فهي إذا مفتقرة في أن تكون فضيلة إليه، وعيال في استحقاق هذا الاسم عليه، وإذا هي خلت من العلم أو أبت أن تمتثل أمره وتقتفي أثره ورسمه، [ ص: 5 ] آلت ولا شيء أحشد للذم على صاحبها منها، ولا شين أشين من إعماله لها.
2- فهذا في فضل العلم لا تجد عاقلا يخالفك فيه ولا ترى أحدا يدفعه أو ينفيه . فأما المفاضلة بين بعضه وبعض وتقديم فن منه على فن، فإنك ترى الناس فيه على آراء مختلفة، وأهواء متعادية ترى كلا منهم - لحبه نفسه وإيثاره أن يدفع النقص عنها - يقدم ما يحسن من أنواع العلم على ما لا يحسن ، ويحاول الزراية على الذي لم يحظ به، والطعن على أهله والغض منهم . ثم تتفاوت أحوالهم في ذلك : فمن مغمور قد استهلكه هواه وبعد في الجور مداه ، ومن مترجح فيه بين الإنصاف والظلم يجور تارة ويعدل أخرى في الحكم ، فأما من يخلص في هذا المعنى من الحيف حتى لا يقضي إلا بالعدل وحتى يصدر في كل أمره عن العقل فكالشيء الممتنع وجوده . ولم يكن ذلك كذلك إلا لشرف العلم وجليل محله، وأن محبته مركوزة في الطباع ومركبة في النفوس، وأن الغيرة عليه لازمة للجبلة وموضوعة في الفطرة، وأنه لا عيب أعيب عند الجميع من عدمه ولا ضعة أوضع من الخلو عنه، فلم يعاد إذن إلا من فرط المحبة، ولم يسمح به إلا لشدة الضن.
علم البيان
3- ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا وأبسق فرعا، وأحلى جنى، وأعذب وردا وأكرم نتاجا، وأنور سراجا من علم البيان، الذي لولاه لم تر [ ص: 6 ] لسانا يحوك الوشي، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدر، وينفث السحر، ويقري الشهد، ويريك بدائع من الزهر ، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر ، والذي لولا تحفيه بالعلوم وعنايته بها ، وتصويره إياها، لبقيت كامنة مستورة، ولما استبنت لها يد الدهر صورة، ولاستمر السرار بأهلتها، واستولى الخفاء على جملتها ، إلى فوائد لا يدركها الإحصاء، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء .
ما لحق علم البيان من الضيم والخطأ
إلا أنك لن ترى على ذلك نوعا من العلم قد لقي من الضيم ما لقيه، ومني من الحيف بما مني به ودخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل عليهم فيه ، فقد سبقت إلى نفوسهم اعتقادات فاسدة وظنون ردية، وركبهم فيه جهل عظيم وخطأ فاحش ، ترى كثيرا منهم لا يرى له معنى أكثر مما يرى للإشارة بالرأس والعين وما يجده للخط والعقد ، يقول : إنما هو خبر واستخبار وأمر ونهي . ولكل من ذلك لفظ قد وضع له، وجعل دليلا عليه ، فكل من عرف أوضاع لغة من اللغات عربية كانت أو فارسية، وعرف المغزى من كل لفظة، ثم ساعده اللسان على النطق بها، وعلى تأدية أجراسها وحروفها، فهو بين في تلك اللغة كامل الأداة بالغ من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه منته إلى الغاية التي لا مذهب بعدها يسمع الفصاحة والبلاغة [ ص: 7 ] والبراعة فلا يعرف لها معنى سوى الإطناب في القول، وأن يكون المتكلم في ذلك جهير الصوت، جاري اللسان لا تعترضه لكنة ولا تقف به حبسة ، وأن يستعمل اللفظ الغريب والكلمة الوحشية ، فإن استظهر للأمر وبالغ في النظر، فأن لا يلحن فيرفع في موضع النصب، أو يخطئ فيجيء باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغوي، وعلى خلاف ما ثبتت به الرواية عن العرب.
وجملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك إلا من جهة نقصه في علم اللغة، لا يعلم أن ها هنا دقائق وأسرارا طريق العلم بها الروية والفكر ولطائف مستقاها العقل، وخصائص معان ينفرد بها قوم قد هدوا إليها ودلوا عليها، وكشف لهم عنها، ورفعت الحجب بينهم وبينها، وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام، ووجب أن يفضل بعضه بعضا، وأن يبعد الشأو في ذلك، وتمتد الغاية ويعلو المرتقى ويعز المطلب حتى ينتهي الأمر إلى الإعجاز وإلى أن يخرج من طوق البشر .
من ذم الشعر وعلم الإعراب
4 - ولما لم تعرف هذه الطائفة هذه الدقائق وهذه الخواص واللطائف، لم تتعرض لها ولم تطلبها . ثم عن لها بسوء الاتفاق رأي صار حجازا بينها وبين العلم بها، وسدا دون أن تصل إليها وهو أن ساء اعتقادها في الشعر الذي هو معدنها وعليه المعول فيها، وفي علم الإعراب الذي هو لها [ ص: 8 ] كالناسب الذي ينميها إلى أصولها ويبين فاضلها من مفضولها ، فجعلت تظهر الزهد في كل واحد من النوعين، وتطرح كلا من الصنفين، وترى التشاغل عنهما أولى من الاشتغال بهما والإعراض عن تدبرهما أصوب من الإقبال على تعلمهما.
ذمهم للشعر
5- أما الشعر فخيل إليها أنه ليس فيه كثير طائل، وأن ليس إلا ملحة أو فكاهة أو بكاء منزل أو وصف طلل، أو نعت ناقة أو جمل ، أو إسراف قول في مدح أو هجاء وأنه ليس بشيء تمس الحاجة إليه في صلاح دين أو دنيا .
ذمهم للنحو
6- وأما النحو فظنته ضربا من التكلف وبابا من التعسف وشيئا لا يستند إلى أصل، ولا يعتمد فيه على عقل ، وأن ما زاد منه على معرفة الرفع والنصب وما يتصل بذلك مما تجده في المبادئ فهو فضل لا يجدي نفعا، ولا تحصل منه على فائدة . وضربوا له المثل بالملح - كما عرفت - إلى أشباه لهذه الظنون في القبيلين، وآراء لو علموا مغبتها وما تقود إليه لتعوذوا بالله منها ولأنفوا لأنفسهم من الرضا بها، ذاك لأنهم بإيثارهم الجهل بذلك على العلم في معنى الصاد عن سبيل الله والمبتغي إطفاء نور الله تعالى.
منزلة الشعر والنحو من إعجاز القرآن
7- وذاك أنا إذا كنا نعلم أن الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن، وظهرت وبانت وبهرت، هي أن كان على حد من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر، ومنتهيا إلى غاية لا يطمح إليها بالفكر . وكان محالا أن يعرف كونه كذلك إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب وعنوان الأدب، [ ص: 9 ] والذي لا يشك أنه كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة والبيان، وتنازعوا فيهما قصب الرهان ، ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل، وزاد بعض الشعر على بعض كان الصاد عن ذلك صادا عن أن تعرف حجة الله تعالى . وكان مثله مثل من يتصدى للناس فيمنعهم عن أن يحفظوا كتاب الله تعالى ويقوموا به ويتلوه ويقرئوه ، ويصنع في الجملة صنيعا يؤدي إلى أن يقل حفاظه والقائمون به والمقرئون له . ذاك لأنا لم نتعبد بتلاوته وحفظه والقيام بأداء لفظه على النحو الذي أنزل عليه، وحراسته من أن يغير ويبدل، إلا لتكون الحجة به قائمة على وجه الدهر، تعرف في كل زمان، ويتوصل إليها في كل أوان، ويكون سبيلها سبيل سائر العلوم التي يرويها الخلف عن السلف، ويأثرها الثاني عن الأول ، فمن حال بيننا وبين ما له كان حفظنا إياه واجتهادنا في أن نؤديه ونرعاه كان كمن رام أن ينسيناه جملة ويذهبه من قلوبنا دفعة ، فسواء من منعك الشيء الذي تنتزع منه الشاهد والدليل ، ومن منعك السبيل إلى انتزاع تلك الدلالة، والاطلاع على تلك الشهادة ، ولا فرق بين من أعدمك الدواء الذي تستشفي به من دائك، وتستبقي به حشاشة نفسك ، وبين من أعدمك العلم بأن فيه شفاء وأن لك فيه استبقاء.
الرد على حجج المعتزلة في الإعجاز
8- فإن قال منهم قائل : إنك قد أغفلت فيما رتبت فإن لنا طريقا إلى إعجاز القرآن غير ما قلت ، وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله وتركهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليهم، وطول التقريع لهم [ ص: 10 ] بالعجز عنه . ولأن الأمر كذلك، ما قامت به الحجة على العجم قيامها على العرب ، واستوى الناس قاطبة، فلم يخرج الجاهل بلسان العرب من أن يكون محجوجا بالقرآن.
قيل له : خبرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر، أتعرف له معنى غير أن لا يزال البرهان منه لائحا معرضا لكل من أراد العلم به وطلب الوصول إليه والحجة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها، والعلم بها ممكنا لمن التمسه؟ فإذا كنت لا تشك في أن لا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن، إلا أن الوصف الذي له كان معجزا قائم فيه أبدا وأن الطريق إلى العلم به موجود، والوصول إليه ممكن، فانظر أي رجل تكون إذا أنت زهدت في أن تعرف حجة الله تعالى وآثرت فيه الجهل على العلم، وعدم الاستبانة على وجودها . وكان التقليد فيها أحب إليك والتعويل على علم غيرك آثر لديك، ونح الهوى عنك، وراجع عقلك واصدق نفسك يبن لك فحش الغلط فيما رأيت، وقبح الخطأ في الذي توهمت . وهل رأيت رأيا أعجز، واختيارا أقبح ممن كره أن تعرف حجة الله تعالى من الجهة التي إذا عرفت منها كانت أنور وأبهر وأقوى وأقهر، وآثر أن لا يقوى سلطانها على الشرك كل القوة، ولا تعلو على الكفر كل العلو ؟ والله المستعان.