[ ص: 1752 ] تفسير سورة الرحمن
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان
هذه السورة الكريمة الجليلة، افتتحها باسمه "الرحمن" الدال على سعة رحمته، وعموم إحسانه، وجزيل بره، وواسع فضله، ثم ذكر ما يدل على رحمته وأثرها الذي أوصله الله إلى عباده من النعم الدينية والدنيوية والأخروية وبعد كل جنس ونوع من نعمه، ينبه الثقلين لشكره، ويقول: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " .
فذكر أنه علم القرآن أي: علم عباده ألفاظه ومعانيه، ويسرها على عباده، وهذا أعظم منة ورحمة رحم بها عباده، حيث أنزل عليهم قرآنا عربيا بأحسن ألفاظ، وأوضح المعاني، مشتمل على كل خير، زاجر عن كل شر.
خلق الإنسان في أحسن تقويم، كامل الأعضاء، مستوفي الأجزاء، محكم البناء، قد أتقن البارئ تعالى البديع خلقه أي إتقان، وميزه على سائر الحيوانات.
بأن علمه البيان أي: التبيين عما في ضميره، وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي، فالبيان الذي ميز الله به الآدمي على غيره من أجل نعمه، وأكبرها عليه.
الشمس والقمر بحسبان أي: خلق الله الشمس والقمر، وسخرهما يجريان بحساب مقنن، وتقدير مقدر، رحمة بالعباد، وعناية بهم، وليقوم بذلك من مصالحهم ما يقوم، وليعرف العباد عدد السنين والحساب.
والنجم والشجر يسجدان أي: نجوم السماء، وأشجار الأرض، تعرف [ ص: 1753 ] ربها وتسجد له، وتطيع وتخضع وتنقاد لما سخرها له من مصالح عباده ومنافعهم.
والسماء رفعها سقفها للمخلوقات الأرضية، ووضع الله الميزان أي: العدل بين العباد، في الأقوال والأفعال، وليس المراد به الميزان المعروف وحده، بل هو كما ذكرنا، يدخل فيه الميزان المعروف، والمكيال الذي تكال به الأشياء والمقادير، والمساحات التي تضبط بها المجهولات، والحقائق التي يفصل بها بين المخلوقات، ويقام بها العدل بينهم، ولهذا قال: ألا تطغوا في الميزان أي: أنزل الله الميزان، لئلا تتجاوزوا الحد في الميزان، فإن الأمر لو كان يرجع إلى عقولكم وآرائكم، لحصل من الخلل ما الله به عليم، ولفسدت السماوات والأرض.
وأقيموا الوزن بالقسط أي: اجعلوه قائما بالعدل، الذي تصل إليه مقدرتكم وإمكانكم، ولا تخسروا الميزان أي: لا تنقصوه وتعملوا بضده، وهو الجور والظلم والطغيان.
والأرض وضعها الله على ما كانت عليه من الكثافة والاستقرار واختلاف أوصافها و أحوالها للأنام أي: للخلق، لكي يستقروا عليها، وتكون لهم مهادا وفراشا يبنون بها، ويحرثون ويغرسون ويحفرون ويسلكون سبلها فجاجا، وينتفعون بمعادنها وجميع ما فيها، مما تدعو إليه حاجتهم، بل ضرورتهم.
ثم ذكر ما فيها من الأقوات الضرورية، فقال: فيها فاكهة وهي جميع الأشجار التي تثمر الثمرات التي يتفكه بها العباد، من العنب والتين والرمان والتفاح، وغير ذلك، والنخل ذات الأكمام أي: ذات الوعاء الذي ينفلق عن القنوان التي تخرج شيئا فشيئا حتى تتم، فتكون قوتا يدخر ويؤكل، يتزود منه المقيم والمسافر، وفاكهة لذيذة من أحسن الفواكه.
والحب ذو العصف أي: ذو الساق الذي يداس، فينتفع بتبنه للأنعام وغيرها، ويدخل في ذلك حب البر والشعير والذرة والأرز والدخن، وغير ذلك، والريحان يحتمل أن المراد به جميع الأرزاق التي يأكلها الآدميون، فيكون هذا من باب عطف العام على الخاص، ويكون الله قد امتن على عباده [ ص: 1754 ] بالقوت والرزق، عموما وخصوصا، ويحتمل أن المراد بالريحان، الريحان المعروف، وأن الله امتن على عباده بما يسره في الأرض من أنواع الروائح الطيبة، والمشام الفاخرة، التي تسر الأرواح، وتنشرح لها النفوس.
ولما ذكر جملة كثيرة من نعمه التي تشاهد بالأبصار والبصائر، وكان الخطاب للثقلين، الإنس والجن، قررهم تعالى بنعمه، فقال: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " أي: فبأي نعم الله الدينية والدنيوية تكذبان؟
وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة، فكلما مر بقوله: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قالوا ولا بشيء من ألائك ربنا نكذب، فلك الحمد، فهكذا ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه، أن يقر بها ويشكر، ويحمد الله عليها.