ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر
أي: ولقد جاء آل فرعون أي: فرعون وقومه النذر فأرسل الله إليهم موسى الكليم، وأيده بالآيات الباهرات، والمعجزات الباهرات وأشهدهم من العبر ما لم يشهد غيرهم فكذبوا بآيات الله كلها، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فأغرقهم في اليم هو وجنوده والمراد من ذكر هذه القصص تحذير الناس والمكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: أكفاركم خير من أولئكم أي: هؤلاء الذين كذبوا أفضل الرسل، خير من أولئك المكذبين، الذين ذكر الله هلاكهم وما جرى عليهم؟ فإن كانوا [ ص: 1750 ] خيرا منهم، أمكن أن ينجوا من العذاب، ولم يصبهم ما أصاب أولئك الأشرار، وليس الأمر كذلك، فإنهم إن لم يكونوا شرا منهم، فليسوا بخير منهم، أم لكم براءة في الزبر أي: أم أعطاكم الله عهدا وميثاقا في الكتب التي أنزلها على الأنبياء، فتعتقدون حينئذ أنكم الناجون بإخبار الله ووعده؟ وهذا غير واقع، بل غير ممكن عقلا وشرعا، أن تكتب براءتهم في الكتب الإلهية المتضمنة للعدل والحكمة، فليس من الحكمة نجاة أمثال هؤلاء المعاندين المكذبين، لأفضل الرسل وأكرمهم على الله، فلم يبق إلا أن يكون بهم قوة ينتصرون بها، فأخبر تعالى أنهم يقولون: نحن جميع منتصر قال تعالى مبينا لضعفهم، وأنهم مهزومون: سيهزم الجمع ويولون الدبر فوقع كما أخبر، هزم الله جمعهم الأكبر يوم بدر، وقتلت صناديدهم وكبراؤهم فأذلوا ونصر الله دينه ونبيه وحزبه المؤمنين.
ومع ذلك، فلهم موعد يجمع به أولهم وآخرهم، ومن أصيب في الدنيا منهم، ومن متع بلذاته، ولهذا قال: بل الساعة موعدهم الذي يحازون به، ويؤخذ منهم الحق بالقسط، والساعة أدهى وأمر أي: أعظم وأشق، وأكبر من كل ما يتوهم، أو يدور في الخيال .
إن المجرمين أي: الذين أكثروا من فعل الجرائم، وهي الذنوب العظيمة من الشرك وغيره، من المعاصي في ضلال وسعر أي: هم ضالون في الدنيا، ضلال عن العلم، وضلال عن العمل، الذي ينجيهم من العذاب، ويوم القيامة في العذاب الأليم، والنار التي تتسعر بهم، وتشتعل في أجسامهم، حتى تبلغ أفئدتهم.
يوم يسحبون في النار على وجوههم التي هي أشرف ما بهم من الأعضاء، وألمها أشد من ألم غيرها، فيهانون بذلك ويخزون، ويقال لهم: ذوقوا مس سقر أي: ذوقوا ألم النار وأسفها وغيظها ولهبها.
إنا كل شيء خلقناه بقدر وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسفلية، أن الله تعالى وحده خلقها لا خالق لها سواه، ولا مشارك له في [ ص: 1751 ] خلقه . وخلقها بقضاء سبق به علمه، وجرى به قلمه، بوقتها ومقدارها، وجميع ما اشتملت عليه من الأوصاف، وذلك على الله يسير، فلهذا قال:
وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر فإذا أراد شيئا قال له كن فيكون كما أراد، كلمح البصر، من غير ممانعة ولا صعوبة.
ولقد أهلكنا أشياعكم من الأمم السابقين الذين عملوا كما عملتم، وكذبوا كما كذبتم فهل من مدكر أي: متذكر يعلم أن سنة الله في الأولين والآخرين واحدة، وأن حكمته كما اقتضت إهلاك أولئك الأشرار، فإن هؤلاء مثلهم، ولا فرق بين الفريقين.
وكل شيء فعلوه في الزبر أي: كل ما فعلوه من خير وشر مكتوب
عليهم في الكتب القدرية وكل صغير وكبير مستطر أي: مسطر مكتوب،
وهذا حقيقة القضاء والقدر، وأن جميع الأشياء كلها، قد علمها الله تعالى، وسطرها عنده في اللوح المحفوظ، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
إن المتقين لله، بفعل أوامره وترك نواهيه، الذين اتقوا الشرك والكبائر والصغائر.
في جنات ونهر أي: في جنات النعيم، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من الأشجار اليانعة، والأنهار الجارية، والقصور الرفيعة، والمنازل الأنيقة، والمآكل والمشارب اللذيذة، والحور الحسان، والروضات البهية في الجنان، ورضا الملك الديان، والفوز بقربه، ولهذا قال: في مقعد صدق عند مليك مقتدر فلا تسأل بعد هذا عما يعطيهم ربهم من كرامته وجوده، ويمدهم به من إحسانه ومنته، جعلنا الله منهم، ولا حرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.
تم تفسير هذه السورة، والحمد لله