كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون
كما أخرجك ربك : فيه وجهان ، أحدهما ، أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر [ ص: 554 ] مبتدأ محذوف تقديره هذه الحال كحال إخراجك ، يعني : أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب.
والثاني : أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدر في قوله : الأنفال لله والرسول ، أي : الأنفال استقرت لله والرسول ، وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون ، و من بيتك : يريد بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها ; لأنها مهاجره ومسكنه ، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه ، "بالحق" أي : إخراجا ملتبسا بالحكمة والصواب الذي لا محيد عنه وإن فريقا من المؤمنين لكارهون : في موضع الحال ، أي : أخرجك في حال كراهتهم ; وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة ، معها أربعون راكبا ، منهم : أبو سفيان ، وعمرو بن العاص ، وعمرو بن هشام ، فأخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبر المسلمين ، فأعجبهم تلقي العير ; لكثرة الخير ، وقلة القوم ، فلما خرجوا ، بلغ أهل مكة خبر خروجهم ، فنادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة ، النجاة ، النجاة على كل صعب وذلول ، عيركم أموالكم ، إن أصابها محمد ، لن تفلحوا بعدها أبدا ، وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا ، فقالت لأخيها : إني رأيت عجبا ، رأيت كأن ملكا نزل من السماء ، فأخذ صخرة من الجبل ، ثم حلق بها ، فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة ، فحدث بها فقال العباس ، أبو جهل : ما يرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأ نساؤهم ، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير ، في المثل السائر : لا في العير ، ولا في النفير ، فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت ، فارجع بالناس إلى مكة ، فقال : لا والله ، لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور ، ونشرب الخمور ، ونقيم القينات ، والمعازف ببدر ، فيتسامع جميع العرب بمخرجنا ، وأن محمدا لم يصب العير ، وإنا قد أعضضناه ، فمضى بهم إلى بدر - وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة - فنزل جبريل - عليه السلام - فقال : يا محمد ، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين : إما العير ، وإما قريشا ، فاستشار النبي [ ص: 555 ] -صلى الله عليه وسلم - أصحابه ، وقال : ما تقولون ، إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول ، فالعير أحب إليكم أم النفير؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدو ، فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ثم ردد عليهم ، فقال : "إن العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل" ، فقالوا : يا رسول الله ، عليك بالعير ، ودع العدو ، فقام عند غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ، - رضي الله عنهما - فأحسنا ، ثم قام وعمر فقال : انظر أمرك فامض ، فوالله ، لو سرت إلى عدن أبين ، ما تخلف عنك رجل من الأنصار ، ثم قال سعد بن عبادة ، : يا رسول الله ، امض لما أمرك الله ; فإنا معك حيثما أحببت ، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل المقداد بن عمرو لموسى : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون [المائدة : 24] ، ولكن : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، ما دامت عين منا تطرف ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : "أشيروا علي أيها الناس" وهو يريد الأنصار ، لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا ، فأنت في ذمامنا ، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة ، فقام فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال : "أجل" ، قال : قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته ، لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا إنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله ، ففرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبسطه قول سعد بن معاذ ، ثم قال : "سيروا على بركة الله وأبشروا ; فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله ، لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم" سعد ، ، وروي بدر : عليك بالعير ، ليس دونها شيء ، فناداه وهو في وثاقه : لا يصلح ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لم" ؟ قال : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك ، وكانت الكراهة من بعضهم [ ص: 556 ] لقوله : العباس ، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون . أنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغ من