مدنية ; [إلا من آية 30 إلى غاية آية 36 فمكية]
وهي خمس وسبعون آية [نزلت بعد البقرة]
بسم الله الرحمن الرحيم
يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم
; لأنها من فضل الله - تعالى- وعطائه ; قال النفل : الغنيمة لبيد [من الرمل] :
إن تقوى ربنا خير نفل
[ ص: 550 ] والنفل ما ينفله الغازي ، أي : يعطاه زائدا على سهمه من المغنم ، وهو أن يقول الإمام تحريضا على البلاء في الحرب : من قتل قتيلا فله سلبه ، أو قال لسرية : ما أصبتم فهو لكم ، أو فلكم نصفه أو ربعه ، ولا يخمس النفل ، ويلزم الإمام الوفاء بما وعد منه ، وعند - رحمه الله - في أحد قوليه : لا يلزم ، ولقد وقع الاختلاف بين المسلمين في غنائم الشافعي بدر وفي قسمتها ، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تقسم ، ولمن الحكم في قسمتها ؟ أللمهاجرين أم للأنصار؟ أم لهم جميعا؟ فقيل له : قل لهم : هي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الحاكم فيها خاصة يحكم فيها ما يشاء ، ليس لأحد غيره فيها حكم ، وقيل : شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن ينفله ، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ، فلما يسر الله لهم الفتح ، اختلفوا فيما بينهم ، وتنازعوا ، فقال الشبان : نحن المقاتلون ، وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردءا لكم ، وفئة تنحازون إليها إن انهزمتم ، وقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : المغنم قليل ، والناس كثير ، وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك ; فنزلت ، وعن سعد بن أبي وقاص : عمير يوم بدر ، فقتلت به سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه فأعجبني ، فجئت به إلى رسول [ ص: 551 ] الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : إن الله قد شفى صدري من المشركين ، فهب لي هذا السيف ، فقال : ليس هذا لي ولا لك ، اطرحه في القبض فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله - تعالى- من قتل أخي ، وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أنزلت سورة الأنفال ، فقال : "يا إنك سألتني السيف وليس لي ، وإنه قد صار لي فاذهب فخذه" ، سعد ، وعن قتل أخي عبادة بن الصامت : بدر ، حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - فقسمه بين المسلمين على السواء ، وكان في ذلك تقوى الله ، وطاعة رسوله ، وإصلاح ذات البين ، وقرأ نزلت فينا يا معشر أصحاب ابن محيصن : "يسألونك علنفال" ، بحذف الهمزة ، وإلقاء حركتها على اللام ، وإدغام نون عن في اللام ، وقرأ "يسألونك الأنفال" ، أي : يسألك الشبان ما شرطت لهم من الأنفال . ابن مسعود :
فإن قلت : ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله : قل الأنفال لله والرسول ؟
قلت : معناه أن حكمها مختص بالله ورسوله ، يأمر الله بقسمتها ، على ما تقتضيه حكمته ، ويمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوضا إلى رأي أحد ، والمراد : إن الذين اقتضته حكمة الله ، وأمر به رسوله : أن يواسي المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات ، فيقاسموهم على السوية ، ولا يستأثروا بما شرط لهم ; فإنهم إن فعلوا ، لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي فاتقوا الله : في الاختلاف والتخاصم ، وكونوا متحدين متآخين في الله وأصلحوا ذات [ ص: 552 ] بينكم : وتآسو ا ، وتساعدوا فيما رزقكم الله وتفضل به عليكم ، وعن كان الإصلاح بينهم أن دعاهم وقال : اقسموا غنائمكم بالعدل ، فقالوا : قد أكلنا وأنفقنا ، فقال : ليرد بعضكم على بعض . عطاء :
فإن قلت : ما حقيقة قوله : "ذات بينكم " ؟
قلت : أحوال بينكم ، يعني : ما بينكم من الأحوال ، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق ; كقوله : "بذات الصدور" ، وهي مضمراتها ، لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها : ذات البين ; كقولهم : اسقني ذا إنائك ، يريدون ما في الإناء من الشراب ، وقد جعل التقوى ، وإصلاح ذات البين ، وطاعة الله ورسوله ، من لوازم الإيمان وموجباته ; ليعلمهم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها ، ومعنى قوله : إن كنتم مؤمنين : إن كنتم كاملي الإيمان ، واللام في قوله : إنما المؤمنون : إشارة إليهم ، أي : إنما الكاملو الإيمان من صفتهم كيت وكيت ; والدليل عليه قوله : أولئك هم المؤمنون حقا . وجلت قلوبهم : فزعت ، وعن : الوجل في القلب كاحتراق السعفة ، أما تجد له قشعريرة؟ قال : بلى ، قالت : فادع الله ; فإن الدعاء يذهبه ، يعني : فزعت لذكره ; استعظاما له ، وتهيبا من جلاله ، وعزة سلطانه ، وبطشه بالعصاة ، وعقابه ، وهذا الذكر خلاف الذكر في قوله : أم الدرداء ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [الزمر : 23] ; لأن ذلك ذكر رحمته ورأفته وثوابه ، وقيل : هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له : اتق الله فينزع ، وقرئ : "وجلت" ، بالفتح ، وهي لغة نحو : "وبق" ، في "وبق" ، وفي قراءة عبد الله : "فرقت " زادتهم إيمانا ; ازدادوا بها يقينا وطمأنينة في نفس ; لأن تظاهر الأدلة ، أقوى للمدلول عليه ، وأثبت لقدمه ، وقد حمل على زيادة العمل ، وعن رضي الله عنه - : أبي هريرة - . وعن "الإيمان سبع وسبعون شعبة ، أعلاها : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان" - رضي الله عنه - : "إن عمر بن عبد [ ص: 553 ] العزيز ، فمن استكملها ، استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان" للإيمان سننا ، وفرائض ، وشرائع وعلى ربهم يتوكلون : ولا يفوضون أمورهم إلى غير ربهم ، لا يخشون ولا يرجون إلا إياه ، جمع بين من الخشية ، والإخلاص ، والتوكل ، وبين أعمال القلوب من الصلاة والصدقة ، "حقا" : صفة للمصدر المحذوف ، أي : أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا ; أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي : أعمال الجوارح أولئك هم المؤمنون ; كقولك : هو عبد الله حقا ، أي : حق ذلك حقا ، وعن أن رجلا سأله : أمؤمن أنت؟ قال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ورسله ، واليوم الآخر ، والجنة ، والنار ، والبعث ، والحساب ، فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله : الحسن إنما المؤمنون ، فوالله ، لا أدري أمنهم أنا أم لا ، وعن من زعم أنه مؤمن بالله حقا ، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة ، فقد آمن بنصف الآية ، وهذا إلزام منه ، يعني : كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقا ، فلا يقطع بأنه مؤمن حقا ، وبهذا تعلق من يستثنى في الإيمان ، وكان الثوري : - رضي الله عنه - ممن لا يستثنى فيه ، وحكي عنه أنه قال أبو حنيفة لم تستثنى في إيمانك؟ قال : اتباعا لقتادة : لإبراهيم - عليه السلام - في قوله : والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ، فقال له : هلا اقتديت به في قوله : أولم تؤمن قال بلى [البقرة : 260]؟ درجات : شرف ، وكرامة ، وعلو منزلة ومغفرة : وتجاوز لسيئاتهم ورزق كريم : نعيم الجنة ، يعني : لهم منافع حسنة ، دائمة على سبيل التعظيم ، وهذا معنى الثواب .