وجوز أن يكون ظرفا (لقالوا) وفيه على ما قيل حينئذ تنبيه على أن ادعائهم الإخلاص مع قولهم: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء لم يكن عن تحقيق منهم ولا عن معرفة بالله تعالى وقدرته سبحانه لأنهم لو حققوا وعرفوا لم يقولوا ذلك إذ لا يليق مثله بالمؤمن بالله عز وجل، وتعقب هذا القول بأنه خارق للإجماع، وقال الحلبي : لا خلاف أحفظه في أنهم كانوا مؤمنين وأيد ذلك بقوله تعالى : ابن عطية فمن يكفر بعد منكم وبأن وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل، وبأن الله تعالى أمر المؤمنين بالتشبه بهم والاقتداء بسنتهم في قوله عز من قائل : كونوا أنصار الله الآية وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح " الزبير " والتزام القول بأن الحواريين فرقتان مؤمنون وهم خالصة إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير عيسى عليه الصلاة والسلام [ ص: 59 ] والمأمور بالتشبه بهم، وكافرون وهم أصحاب المائدة، وسؤال عيسى عليه الصلاة والسلام نزول المائدة وإنزالها ليلزمهم الحجة يحتاج إلى نقل ولم يوجد، ومن ذلك أجيب عن الآية بأجوبة فقيل: إن معنى هل يستطيع هل يفعل كما تقول للقادر على القيام : هل تستطيع أن تقوم؟ مبالغة في التقاضي ونقل هذا القول عن الحسن
والتعبير عن الفعل بالاستطاعة من التعبير عن المسبب بالسبب إذ هي من أسباب الإيجاد وعلى عكسه التعبير عن إرادة الفعل بالفعل تسمية للسبب الذي هو الإرادة باسم المسبب الذي هو الفعل في مثل قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة إلخ، وقيل : إن المعنى هل يستطيع ربك فيستطيع بمعنى يطيع، ويطيع بمعنى يجيب مجازا، ونقل ذلك عن وذكر السدي، أبو شامة أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرض فقال له : يا ابن أخي ادع ربك أن يعافيني فقال : "اللهم اشف عمي"، فقام كأنما نشط من عقال، فقال : يا ابن أخي إن ربك الذي تعبده يطيعك، فقال : "يا عم وأنت لو أطعته لكان يطيعك" أي يجيبك لمقصودك وحسن استعماله صلى الله عليه وسلم لذلك المشاكلة وقيل : هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة فكأنهم قالوا : هل إرادة الله تعالى وحكمته تعلقت بذلك أو لا لأنه لا يقع شيء بدون تعلقها به
واعترض بأن قوله تعالى الآتي: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين لا يلائمه لأن السؤال عن مثله مما هو من علوم الغيب لا قصور فيه، وقيل : إن سؤالهم للاطمئنان والتثبت كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام : أرني كيف تحي الموتى ومعنى إن كنتم مؤمنين : إن كنتم كاملين في الإيمان والإخلاص، ومعنى (نعلم أن قد صدقتنا) نعلم علم مشاهدة وعيان بعد ما علمناه علم إيمان وإيقان، ومن هذا يعلم ما يندفع به الاعتراض
وقرأ الكسائي كرم الله تعالى وجهه وعلي وعائشة وابن عباس وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم: هل تستطيع ربك بالتاء خطابا ومعاذ لعيسى عليه الصلاة والسلام ونصب (ربك) على المفعولية
والأكثرون على أن هناك مضافا محذوفا أي سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف؟، وعن الفارسي أنه لا حاجة إلى تقدير، والمعنى: هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك؟ وأنت تعلم أن اللفظ لا يؤدي ذلك فلا بد من التقدير، والمائدة في المشهور الخوان الذي عليه الطعام من ماد يميد إذا تحرك أو من ماده بمعنى أعطاه فهي فاعلة إما بمعنى مفعولة كـ عيشة راضية ، واختاره في تهذيب اللغة أو بجعلها للتمكن مما عليها كأنها بنفسها معطية كقولهم للشجرة المثمرة : مطعمة، وأجاز بعضهم أن يقال فيها ميدة واستشهد عليه بقول الراجز : الزهري
وميدة كثيرة الألوان تصنع للجيران والإخوان،
واختار المناوي أن المائدة كل ما يميد ويبسط، والمراد بها السفرة وأصلها طعام يتخذه المسافر ثم سمي بها الجلد المستدير الذي تحمل به غالبا كما سميت المزادة راوية، وجوز أن تكون تسمية الجلد المذكور سفرة لأن له معاليق متى حلت عنه انفرج فأسفر عما فيه، وهذا غير الخوان بضم الخاء وكسرها وهو أفصح، ويقال له إخوان بهمزة مكسورة لأنه اسم لشيء مرتفع يهيأ ليؤكل عليه الطعام، والأكل عليه بدعة لكنه جائز إن خلا من قصد التكبر، وتطلق المائدة على نفس الطعام أيضا كما نص عليه بعض المحققين، و من السماء يجوز أن يتعلق بالفعل قبله وأن يتعلق بمحذوف وقع صفة لمائدة أي مائدة كائنة من السماء، قال أي عيسى [ ص: 60 ] عليه الصلاة والسلام لهم حين قالوا ذلك : اتقوا الله من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات كما قال وعن الزجاج الفارسي أنه أمر لهم بالتقوى مطلقا، ولعل ذلك لتصير ذريعة لحصول المأمول فقد قال سبحانه : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، وقال جل شأنه : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة إن كنتم مؤمنين211
- بكمال قدرته تعالى وبصحة نبوءتي أو كاملين في الإيمان والإخلاص أو إن صدقتم في ادعاء الإيمان والإسلام