بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة المفسر
حمدا لمن جعل روح معاني الأكوان تفسيرا لآيات قدرته، وصير نقوش أشباح الأعيان بيانا لبينات وحدته، وأظهر من غيب هويته قرآنا، غدا فرقانه كشافا عن فرق الكتب الإلهية الغياهب، وأبرز من سجف ألوهيته نورا أشرق على مرايا الكائنات بحسب مزايا الاستعدادات، فاتضحت من معالم العوالم المراتب، وصلاة وسلاما على أول درة أضاءت من الكنز المخفي في ظلمة عماء القدم، فأبصرتها عين الوجود، وعلة إيجاد كل درة برأتها يد الحكيم، إذ تردت في هوة العدم، فعادت ترفل بأردية كرم وجود، مهبط الوحي الشفاهي الذي ارتفع رأس الروح الأمين بالهبوط إلى موطئ أقدامه، ومعدن السر الإلهي الذي انقطع فكر الملإ الأعلى دون ذكر الوصول إلى أدنى مقامه، فهو النبي الذي أبرزه مولاه من ظهور الكمون إلى حواشي متون الظهور، ليكون شرحا لكتاب صفاته وتقريرا، ورفعه بتخصيصه من بين العموم بمظهرية سره المستور، وأنزل عليه قرآنا عربيا غير ذي عوج، ليكون للعالمين نذيرا.
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
وعلى آله وأصحابه مطالع أنوار التنزيل، ومغارب أسرار التأويل، الذين دخلوا عكاظ الحقائق بالوساطة المحمدية، فما برحوا حتى ربحوا فباعوا نفوسا، وشروا نفيسا، وقطعوا أسباب العلائق بالهمم الحقيقية، فما عرجوا حتى عرجوا، فلقوا عزيزا، وألقوا خسيسا، فهم النجوم المشرقة بنور الهدى، والرجوم المحرقة لشياطين الردى، رضي الله عنهم، وأرضاهم، وإلى متبعيهم وأولاهم، ما سرحت روح المعاني في رياض القرآن، وسبحت أشباح المباني في حياض العرفان.أما بعد، فيقول عيبة العيوب، وذنوب الذنوب، أفقر العباد إليه عز شأنه مدرس دار السلطنة العلية، ومفتي بغداد المحمية، أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي عفي عنه: إن العلوم وإن تباينت أصولها، وغربت وشرقت فصولها، واختلفت أحوالها، وأتهمت، وأنجدت أقوالها، وتنوعت أبوابها، وأشأمت وأعرقت أصحابها، وتغايرت مسائلها، وأيمنت وأيسرت وسائلها، فهي بأسرها مهمة، ومعرفتها على العلات نعمة، إلا أن أعلاها قدرا، وأغلاها مهرا، وأسناها مبنى، وأسماها معنى، وأدقها فكرا، وأرقها سرا، وأعرقها نسبا، وأعرفها أبا، وأقومها قيلا، وأقواها قبيلا، وأحلاها لسانا، وأجلاها بيانا، وأوضحها سبيلا، وأصحها دليلا، وأفصحها نطقا، وأمنحها رفقا، العلوم الدينية، والفهوم اللدنية، فهي شمس ضحاها، وبدر دجاها، وخال وجنتها، ولعس شفتها، ودعج عيونها، وغنج جفونها، وحبب رضابها، وتنهد كعابها، ورقة كلامها، ولين قوامها.
على نفسه فليبك من ضاع عمره وليس له منها نصيب ولا سهم
إذا كان هذا الدمع يجري صبابة على غير سلمى فهو دمع مضيع
ألا إنما الأيام أبناء واحد وهذي الليالي كلها أخوات
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
نعم السمير كتاب الله إن له حلاوة هي أحلى من جنى الضرب
به فنون المعاني قد جمعن فما تفتر من عجب إلا إلى عجب
أمر ونهي وأمثال وموعظة وحكمة أودعت في أفصح الكتب
لطائف يجتليها كل ذي بصر وروضة يجتنيها كل ذي أدب
أما معناهما: فالتفسير تفعيل من الفسر، وهو لغة البيان والكشف، والقول بأنه مقلوب السفر مما لا يسفر له وجه، ويطلق التفسير على التعرية للانطلاق، يقال: فسرت الفرس إذا عريته لينطلق، ولعله يرجع لمعنى الكشف كما لا يخفى، بل كل تصاريف حروفه لا تخلو عن ذلك كما هو ظاهر لمن أمعن النظر.
ورسموه بأنه علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية، والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، وتتمات لذلك كمعرفة النسخ وسبب النزول، وقصة توضح ما أبهم في القرآن ونحو ذلك.
والتأويل من الأول، وهو الرجوع، والقول بأنه من الإيالة، وهي السياسة كأن المؤول للكلام ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه ليس بشيء، واختلف في الفرق بين التفسير والتأويل، فقال هما بمعنى، وقال أبو عبيدة: : التفسير أعم، وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها في الكتب الإلهية وغيرها، والتأويل في المعاني والجمل في الكتب الإلهية خاصة، وقال الراغب الماتريدي : [ ص: 5 ] التفسير القطع بأن مراد الله تعالى كذا، والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون قطع، وقيل: التفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية.
وقيل غير ذلك، وعندي أنه إن كان المراد الفرق بينهما بحسب العرف فكل الأقوال فيه ما سمعتها، وما لم تسمعها مخالفة للعرف اليوم، إذ قد تعارف من غير نكير أن التأويل إشارة قدسية، ومعارف سبحانية تنكشف من سجف العبارات للسالكين، وتنهال من سحب الغيب على قلوب العارفين، والتفسير غير ذلك، وإن كان المراد الفرق بينهما بحسب ما يدل عليه اللفظ مطابقة، فلا أظنك في مرية من رد هذه الأقوال، أو بوجه ما فلا أراك ترضى إلا أن في كل كشف إرجاعا، وفي كل إرجاع كشفا، فافهم، وأما بيان الحاجة إليه فلأن فهم القرآن العظيم المشتمل على الأحكام الشرعية التي هي مدار السعادة الأبدية، وهو العروة الوثقى، والصراط المستقيم أمر عسير لا يهتدى إليه إلا بتوفيق من اللطيف الخبير حتى أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم على علو كعبهم في الفصاحة، واستنارة بواطنهم بما أشرق عليها من مشكاة النبوة كانوا كثيرا ما يرجعون إليه بالسؤال عن أشياء لم يعرجوا عليها، ولم تصل أفهامهم إليها بل ربما التبس عليهم الحال ففهموا غير ما أراده الملك المتعال كما وقع لعدي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود، ولا شك أنا محتاجون إلى ما كانوا محتاجين إليه، وزيادة، وأما بيان شرفه فلأن شرف العلم بشرف موضوعه، وشرف معلومه وغايته وشدة الاحتياج إليه، وهو حائز لجميعها، فإن موضوعه كلام الله تعالى، وماذا عسى أن يقال فيه، ومعلومه مع أنه مراد الله تعالى الدال عليه كلامه جامع للعقائد الحقة والأحكام الشرعية وغيرها، وغايته الاعتصام بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والوصول إلى سعادة الدارين، وشدة الاحتياج إليه ظاهرة مما تقدم بل هو رئيس جميع العلوم الدينية لكونها مأخوذة من الكتاب، وهي تحتاج من حيث الثبوت أو من حيث الاعتداد إلى علم التفسير، وهذا لا ينافي كون الكلام رئيسها أيضا، لأن علم التفسير لتوقفه على ثبوت يحتاج إلى الكلام، والكلام لتوقف جميع مسائله من حيث الثبوت أو الاعتداد على الكتاب يتوقف على التفسير، فيكون كل منهما رئيسا للآخر من وجه، على أن رياسة التفسير بناء على ذلك الشرف مما لا ينتطح فيه كبشان، وأما الآثار الدالة على شرفه فكثيرة، أخرج كونه تعالى متكلما وغيره من طريق ابن أبي حاتم، ابن أبي طلحة، عن في قوله تعالى: ابن عباس يؤتي الحكمة قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله، وأخرج عن أبو عبيدة، قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن تعلم فيما أنزلت، وما أراد بها، وأخرج الحسن عن ابن أبي حاتم، عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية لا أعرفها إلا أحزنتني لأني سمعت الله يقول: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون إلى غير ذلك.