وقرأ رضي الله تعالى عنه الحبر وغيرهما (تثنوني) بالتاء لتأنيث الجمع وبالياء التحتية لأن التأنيث غير حقيقي وهو مضارع اثنوني كاحلولى فوزنه تفعوعل بتكرير العين وهو من أبنية المزيد الموضوعة للمبالغة لأنه يقال: حلى فإذا أريد المبالغة قيل احلولى وهو لازم فصدورهم فاعله ويراد منه ما أريد من المعاني في قراءة الجمهور إلا أن المبالغة ملحوظة في ذلك فيقال: المعنى مثلا تنحرف صدورهم انحرافا بليغا . وعن الحبر أيضا وعروة وغيرهما أنهم قرأوا (تثنون) بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الثاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة والأصل تثنونن بوزن تفعوعل من الثن بكسر الثاء وتشديد النون وهو ما هش وضعف من الكلأ أنشد ومجاهد أبو زيد:
يا أيها المفضل المعني إنك ريان فصمت عني
تكفي اللقوح أكلة من ثنولزم الإدغام لتكرير العين إذا كان غير ملحق و صدورهم على هذه مرفوع أيضا على الفاعلية والمعنى على وصف قلوبهم بالسخافة والضعف كذلك النبت الضعيف فالصدور مجاز عما فيها من القلوب وجوز أن يكون مطاوع ثناه فإنه يقال: ثناه فانثنى واثنوني كما صرح به ابن مالك في التسهيل فقال: وافعوعل للمبالغة وقد يوافق استفعل ويطاوع فعل ومثلوه بهذا الفعل فالمعنى أن صدورهم قبلت الثني ويؤول إلى معنى انحرفت [ ص: 211 ] كما فسر به قراءة الجمهور . وعن وكذا مجاهد عروة الأعشى أنه قرأ (تثنئن) كتطمئن وأصله يثنان فقلبت الألف همزة مكسورة رغبة في عدم التقاء الساكنين وإن كان على حده ويقال في ماضيه اثنأن كاحمأر وابيأض وقيل: أصله تثنون بواو مكسورة فاستثقلت الكسرة على الواو فقلبت همزة كما قيل في وشاح إشاح وفي وسادة إسادة فوزنه على هذا تفوعل وعلى الأول تفعال ورجح باطراده وهو من الثن الكلأ الضعيف أيضا وقرئ (تثنوي) كترعوي ونسب ذلك إلى أيضا وغلط النقل بأنه لا حظ للواو في هذا الفعل إذ لا يقال: ثنوته فانثوى كرعوته فارعوى ووزن ارعوى من غريب الأوزان وفي الصحاح تقديره افعول ووزنه افعلل وإنما لم يدغم لسكون الياء وتمام الكلام فيه يطلب من محله وقرئ بغير ذلك وأوصل بعضهم القراءات إلى ثلاث عشرة وفصلها في الدر المصون ومن غريبها أنه قرئ يثنون بالضم واستشكل ذلك ابن عباس بأنه لا يقال: أثنيته بمعنى ثنيته ولم يسمع في غير هذه القراءة وقال ابن جني : لا يعرف ذلك في اللغة إلا أن يقال: معناه عرضوها للانثناء كما تقول: أبعت الفرس إذا عرضته للبيع أبو البقاء ألا حين يستغشون ثيابهم أي يجعلونها أغشية ومنه قول الخنساء
أرعى النجوم وما كلفت رعيتها وتارة أتغشى فضل أطماري
وقرأ (على حين يستغشون) قال ابن عباس ومن هذا الاستعمال قول ابن عطية النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا
إنه عليم بذات الصدور تعليل لما سبق وتقرير له والمراد - بذات الصدور - الأسرار المستكنة فيها أو القلوب التي في الصدور وأيا ما كان فليست الذات مقحمة كما في ذات غدوة ولا من إضافة المسمى إلى اسمه كما توهم أي أنه تعالى مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم أو بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها فكيف يخفى عليه ما يسرون وما يعلنون وكان التعبير بالجملة الاسمية للإشارة إلى أنه سبحانه لم يزل عالما بذلك وفيه دليل على وهذا مما لا ينكره أحد سوى شرذمة من أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها الخارجي المعتزلة قالوا: إنه تعالى إنما يعلم الأشياء بعد حدوثها تعالى عن ذلك علوا كبيرا ولا يلزم هذا بعض المتكلمين المنكرين للوجود الذهني [ ص: 212 ] لأنهم إذا لم يقولوا به مع إنكار الوجود الذهني يلزمهم القول بتعلق العلم بالمعدوم الصرف وامتناعه من أجل البديهيات والإنكار مكابرة أو جهل بمعنى التعلق بالمعدوم الصرف وقد أورد ذلك عليهم المحقق الدواني وهو ناشئ على ما قيل عن الذهول عن معنى إنكار الوجود الذهني وبعد تحقيق المراد منه يندفع ذلك
وبيانه أنه ليس معنى إنكارهم ذلك أنه لا يحصل صورة عند العقل إذا تصورنا شيئا أو صدقنا به لأن حصولها عنده في الواقع بديهي لا ينكره إلا مكابر وكيف ينكره الجمهور والعلم الحادث مخلوق عندهم والخلق إنما يتعلق بأعيان الموجودات بل هو بمعنى أن ذلك الحصول ليس نحوا آخر من وجود الماهية المعلومة بأن يكون لماهية واحدة كالشمس مثلا وجودان أحدهما خارجي والآخر ذهني كما يقول به مثبتوه فهم لا ينكرون الوجود عن صور الأشياء وأشباحها وهي موجودات خارجية وكيفيات نفسانية وهي المخلوقة عندهم وإنما ينكرون الوجود الذهني عن أنفس تلك الأشياء وذلك بشهادة أدلتهم حيث قالوا: لو حصلت النار في الأذهان لاحترقت الأذهان بتصورها واللازم باطل فإنه كما ترى إنما ينفي الوجود عن نفس النار لا عن شبحها ومثالها، فالحق أن الجمهور إنما أنكروا ما ذهب إليه محققو الحكماء من أن الحاصل في الأذهان أنفس ماهيات الأشياء ولم ينكروا ما ذهب إليه أهل الأشباح وحينئذ يقال: علم الواجب عندهم إما تعلقه بأشباح الأشياء أو صفة ذات ذلك التعلق فلا يلزمهم القول بما قاله الشرذمة ولا يتجه عليهم أن التعلق بتلك الأشباح الموجودة في الأزل لكونه نسبة بينها وبينه تعالى متأخر عنها فيلزم إيجاد تلك الأشباح بلا علم وهو محال لأنا نقول لما كان الواجب (1) تعالى موجبا في علمه وسائر صفاته الذاتية كان وجود تلك الصور الإدراكية التي هي تلك الأشباح مقتضى ذاته تعالى فلا بأس في كونها سابقة على العلم بالذات وإنما المسبوق بالعلم هو أفعاله الاختيارية ثم ينبغي أن يعلم أنه ليس معنى قولهم: إن علم الواجب تبارك وتعالى بالأشياء أزلي وتعلقه بها حادث أنه ليس هناك إلا تعلق حادث لأنه يلزم حدوث نفس العلم فيعود ما ارتكبه الشرذمة للقطع بأنه لا يصير المعلوم معلوما قبل تعلق العلم به وهو من الفساد بمكان بل معناه أن التعلق الذي لا تقتضيه حقيقة العلم حادث وهناك تعلق تقتضيه تلك الحقيقة وهو قديم وذلك لأن الأشباح والأمثال معلومة بالذات وبواسطتها تعلم الأشياء فتعلق العلم عندهم أعم من تعلقه بذات الشيء المعلوم أو بمثاله وشبحه ولما لم يكن وجود الحوادث في الأزل كان العلم الممكن بالنسبة إليها بالتعلق بأمثالها وأشباحها وبعد حدوثها يتجدد التعلق بأن يكون بذات تلك الحوادث وبالجملة تعلق العلم بأمثال الحوادث وأشباحها أزلي وبأنفسها وذواتها حادث ولا إشكال فيه أصلا وبهذا التحقيق يندفع شبهات كثيرة كما قيل لكن أورد عليه أن برهان التطبيق جار في هاتيك الأشباح لما أنها متميزة الآحاد في نفس الأمر فيلزم أحد المحذورين
وفي المقام أبحاث طويلة الذيل وقد بسط الكلام في ذلك مولانا إسماعيل أفندي الكلنبوي في حواشيه على شرح العضدية وللمولى الشيخ إبراهيم الكوراني تحقيق على طرز آخر ذكره في كتابه مطلع الجود فارجع إليه، وبالجملة لا تخفى صعوبة هذه المسألة وهي مما زلت فيها أقدام أقوام ولعل الله سبحانه يرزقك تحقيقها بمنه سبحانه وقد قال به أفضل المتأخرين مولانا إسماعيل أفندي الكلنبوي
تم الجزء الحادي عشر بحول الله وقوته ويليه الجزء الثاني عشر وأوله (وما من دابة 12)