باب ما يجوز من الهبة وما لا يجوز قال : ( وإذا : لم يجز ) يعني : لا يقع الملك للموهوب له بالقبض قبل القسمة - عندنا - وقال وهب الرجل للرجل نصيبا مسمى من دار غير مقسومة ، وسلمه إليه مشاعا ، أو سلم إليه جميع الدار : يقع الملك وتتم الهبة ; لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { الشافعي لما دخل المدينة ، نظر إلى موضع المسجد ، فوجده بين ، وبين رجلين من قومه ، فوهب أسعد بن زرارة أسعد رضي الله عنه نصيبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم وهب الرجلان نصيبهما منه - أيضا - فبنى المسجد } { } . فقد وهب المشاع ، ( وعن ) ، وقال عليه الصلاة والسلام للرجل الذي أتاه بكبة من شعر . فقال : أخذت هذه من الغنيمة ; لأخيط بها بردعة بعير لي ، أما نصيبي منها : فهو لك رضي الله عنه أنه جوز الهبة في المشاع ; ولأنه عقد تمليك للمال ، فيصح في المشاع كالبيع ، وتأثيره : أن الجزء المشاع محل لما هو موجب هذا العقد - وهو الملك - وإنما يشترط في المحل المضاف إليه العقد كونه محلا لحكم العقد ، وبه فارق الصوف على ظهر الغنم ، فإنه مملوك ، وصفا وتبعا لا مقصودا ، وموجب الهبة : الملك مقصودا ; ولهذا لا يجوز إضافة البيع إليه بخلاف الجزء الشائع ; ولأن الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يمنع تمام الهبة ، وما يؤثر فيه الشيوع فيما يحتمل القسمة ، وما لا يحتمل القسمة فيه سواء كالرهن - عندكم - والنكاح - عندي - ; ولأن الهبة عقد تبرع فتكون بمنزلة القرض والوصية . أنس بن مالك
والشيوع لا يمنع صحة الوصية ، وهي تبرع بعد الموت ، فكذلك التبرع في الحياة ، ولا يمنع القرض أيضا ; فإنه لو دفع ألف درهم إلى رجل على أن يكون نصفها قرضا عليه ويعمل في النصف الآخر بشركته : يجوز ذلك ، وبفضل القرض يبطل اعتمادكم على اشتراط القبض . فأصل القبض شرط لوقوع الملك في القرض ، ثم لا تشترط القسمة . والدليل على أن القبض مع الشيوع يتم : أنه ينتقل الضمان إلى [ ص: 65 ] المشتري بالقبض مع الشيوع ، ويملك المشاع عندكم بالبيع الفاسد ، والمشاع يصلح أن يكون رأس مال السلم ، وبدل الصرف . واعتمادنا في المسألة على إجماع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، فقد روينا في أول الكتاب شرط القسمة عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم ، وعن وعثمان رضي الله عنه : من وهب ثلث كذا أو ربع كذا : لا يجوز حتى يقاسم . والمعنى فيه : أن شرط القبض منصوص عليه في الهبة ; فيراعى وجوده على أكمل الجهات التي تمكن - كشرط استقبال القبلة في الصلاة - لما كان منصوصا عليه ، يشترط ذلك فيه - حتى لو استقبل علي الحطيم لا تجوز صلاته - والحطيم من البيت من وجه دون وجه ; وهذا لأن الثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا مطلقا ، وبدون الإطلاق لا يثبت الكمال ، ثم القبض مع الشيوع ثابت من وجه دون وجه ; لأن القبض عبارة عن الحيازة ، وهو : أن يصير الشيء في حيز القابض ، والمشاع في حيزه من وجه ، وفي حيز شريكه من وجه ; لأنه لا يمكن أن يشار إلى شيء منه بعينه . فيقال أنه في يد هذا دون هذا ; ولأن القسمة من تتمة القبض ; ألا ترى أن الشفيع لا ينقض قسمة المشتري ، كما لا ينقض قبضه ، وله نقض تصرفات المشتري ، فإن للمشتري أن يطالب البائع بالقسمة بعد الشراء ، وإنما يثبت له حق المطالبة بالقبض بالشراء . فعرفنا أن القسمة من تتمة القبض ، فبدونها لا يتم ، ولكن هذا فيما يتأتى فيه القسمة ، فأما فيما لا يقسم القسمة : لا يكون حيازة ; لأن المقصود : الانتفاع . وبالقسمة يتلاشى .
فعرفنا أن القسمة فيه ليست من تتمة القبض ; ولأن اشتراط أصل القبض في وقوع الملك هنا لمعنى . ذلك المعنى موجود في القسمة ، وهو أن لا يصير عقد التبرع سببا لوجوب الضمان للمتبرع عليه على المتبرع في عين ما تبرع به ; لأنه لو ملك قبل القبض طالبه بالتسليم إليه ، وكذلك لو ملكه قبل القسمة طالبه بالتسليم إليه فكذلك لو ملكه قبل القسمة طالبه بالقسمة ; فيصير عقد التبرع موجبا ضمان القسمة عليه ، وهو خلاف موضوع التبرع بخلاف ما لا يحتمل القسمة ، فإنه لا يستوجب به حق المطالبة بالقسمة . ( فإن قيل ) : يستوجب به المهايأة ( قلنا ) : المهايأة قسمة المنفعة ، وعقد التبرع لاقى العين ، فلم يكن ذلك ضمانا في عين ما تبرع به ، ولا يرد على هذا ما لو أتلف الواهب الموهوب بعد التسليم ضمن قيمته للموهوب له ; لأن ذلك الضمان يلزمه بالإتلاف لا بعقد التبرع ، وضمان المقاسمة هنا وإن كان بالملك فذلك الملك حكم الهبة ، فلا يمنع إضافة الضمان إلى الهبة ; ألا ترى أن شراء القريب إعتاق ، وإن كان العتق بسبب الملك ; لأن ذلك الملك حكم الشراء ، وبه فارق البيع ، فإنه عقد ضمان ، فيجوز أن يتعلق به ضمان [ ص: 66 ] المقاسمة ; ولأن أصل القبض هناك لا يشترط لوقوع الملك فذلك ما يتممه ، وبه فارق الوصية . فأصل القبض هناك ليس بشرط للملك فكذلك ما يتممه ، وكما يستحق هناك ضمان التسليم على المالك يستحق ضمان المقاسمة أيضا . والقرض تبرع - من وجه - ومن وجه : هو عقد الضمان حتى كان المستقرض مضمونا بالمثل فلا يبعد أن يتعلق به ضمان المقاسمة ، وشرط القبض هناك ليس بمنصوص ليراعى وجوده على أكمل الجهات ، ثم لشبهه بالتبرع شرطنا فيه القبض ، ولشبهه بعقد الضمان لا يشترط فيه القسمة ، وذلك اعتبار صحيح فيما له سببان .
وحديث الكبة فإنما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجه المبالغة في النهي عن الغلول ، أي : لا أملك إلا نصيبي . فكيف أطيب لك هذه الكبة من الغنيمة ; ألا ترى أنه ليس لواحد من الغانمين أن يهب نصيبه قبل القسمة ; لأنه لا يدري أين يقع نصيبه ، أو كان ذلك مما لا يحتمل القسمة ، فالكبة من الشعر إذا قسمت على جند عظيم لا يصيب كل واحد منهم ما ينتفع به . وحديث المسجد فذكر أن الواقدي أبا بكر رضي الله عنه هو الذي اشترى موضع المسجد باثني عشر دينارا ولئن تثبت الهبة ، فيحتمل أن أسعد رضي الله عنه وهب نصيبه ، ولم يسلم حتى وهب الرجلان نصيبهما ثم سلموا جملة ، وعندنا : هذا يجوز ; فإن المؤثر : الشيوع عند القبض ، لا عند العقد حتى لو وهب الكل ، وسلم النصف : لا يجوز . ولو وهب النصف ثم النصف وسلم الكل : جاز .