وقال النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه لما كان يهجو المشركين : لحسان بن ثابت . وقال : اللهم أيده بروح القدس . إن روح القدس معك ما زلت تنافح عن نبيه
وإذا كان كذلك ، ولم يسم أحد هذه الروح فارقليطا ، علم أن البارقليط هو أمر غير هذا ، وأيضا فمثل هذه الروح لا زالت يؤيد بها الأنبياء والصالحون ، وما بشر به المسيح ووعد به أمر عظيم يأتي بعده أعظم من هذا . فإنه وصف البارقليط بصفات لا تناسب هذه الروح ، وإنما تناسب رجلا يأتي بعده نظيرا له ، فإنه قال : إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد ، فقوله : فارقليطا آخر دل على أنه ثان لأول كان قبله ، وأنه لم يكن معهم [ ص: 328 ] في حياة المسيح ، وإنما يكون بعد ذهابه وتوليه ، وأيضا فإنه قال : يثبت معكم إلى الأبد وهذا إنما يكون لما يدوم ويبقى معهم إلى آخر الدهر ، ومعلوم أنه لم يرد بقاء ذاته ، فعلم أنه بقاء شرعه وأمره ، والبارقليط الأول لم يثبت معهم شرعه ودينه إلى الأبد ، وهذا يبين أن الثاني صاحب شرع لا ينسخ بل يبقى إلى الأبد بخلاف الأول ، وهذا إنما ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم .
وأيضا فإنه أخبر أن هذا البارقليط الذي أخبر به يشهد له ، ويعلمهم كل شيء ، وأنه يذكرهم كل ما قاله ، وأنه يوبخ العالم على خطيئته .
قال : والفارقليط الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء ويذكركم كل ما قلت لكم .
وقال : إذا جاء الفارقليط الذي أبي يرسله هو يشهد لي أني قلت هذا ، حتى إذا كان تؤمنوا به ، ولا تشكوا فيه .
وقال : إن خيرا لكم أن أنطلق إلى أبي ، إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط ، فإذا انطلقت أرسلته إليكم ، فهو يوبخ العالم على الخطيئة ، وإن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ، ولكنكم لا تستطيعون حمله ، لكن إذ جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عند نفسه بل يتكلم بما يسمع ويخبر بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب .
فهذه الصفات والنعوت التي تلقوها عن المسيح لا تنطبق على أمر معنوي [ ص: 329 ] يكون في قلب بعض الناس لا يراه أحد ولا يسمع كلامه . وإنما ينطبق على من يراه الناس ويسمعون كلامه ، فيشهد للمسيح ، ويعلمهم كل شيء ، ويذكرهم بكل ما قال لهم المسيح ، ويوبخ العالم على الخطيئة ، ويرشد الناس إلى جميع الحق ، ولا ينطق من عند نفسه ، بل يتكلم بما يسمع ، ويخبرهم بكل ما يأتي ، ويعرفهم جميع ما لرب العالمين ، وهذا لا يكون ملكا لا يراه أحد ، ولا يكون هدى وعلما في قلوب بعض الناس . ولا يكون إلا إنسانا عظيم القدر يخاطب الناس بما أخبر به المسيح ، وهذا لا يكون إلا بشرا رسولا ، بل يكون أعظم من المسيح ، فإن المسيح أخبر أنه يقدر على ما لا يقدر عليه المسيح ، ويعلم ما لا يعلمه ، ويخبر بكل ما يأتي وبما يستحقه الرب ، حيث قال : إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله ، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده ، بل يتكلم بما يسمع ، ويخبركم بما يأتي ، ويعرفكم جميع ما للأب .
فلا يستريب عاقل أن هذه الصفات لا تنطبق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن الإخبار عن الله تعالى بما هو متصف به من الصفات ، وعن ملائكته وعن ملكوته ، وعما أعده في الجنة لأوليائه ، وفي النار لأعدائه ، أمر لا تحتمل أكثر عقول الناس معرفته على التفصيل .
قال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله .
وقال : ما من رجل يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم . ابن مسعود
[ ص: 330 ] وسأل رجل رضي الله عنه عن قوله تعالى : ابن عباس الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن
قال : ما يؤمنك أن لو أخبرتك بها لكفرت . يعني لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت بها ، وكفرك بها تكذيبك بها .
فقال لهم المسيح : إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله ، وهو الصادق المصدوق في هذا .
ولهذا ليس في الإنجيل من صفات الله تعالى وصفات ملكوته ، وصفات اليوم الآخر إلا أمور مجملة ، وكذلك التوراة ليس فيها من ذكر اليوم الآخر إلا أمور مجملة ، مع أن موسى عليه الصلاة والسلام كان قد مهد لأمر المسيح ، ومع هذا فقد قال لهم المسيح : إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله . ثم قال : ولكن إذا جاء روح الحق فذاك الذي يرشدكم إلى الحق ، ويخبركم بكل ما يأتي ، وبجميع ما للرب .
فدل هذا على أن الفارقليط هو الذي يفعل هذا دون المسيح ، وكذلك كان ، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم أرشد الناس إلى جميع الحق حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة ، ولهذا كان خاتم الأنبياء فإنه لم يبق شيء يأتي به غيره ، وأخبر محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما يأتي من أشراط الساعة والقيامة والحساب والصراط ووزن الأعمال ، والجنة وأنواع نعيمها ، والنار وأنواع عذابها ، ولهذا كان في القرآن تفصيل أمر الآخرة ، وذكر الجنة والنار ، فهو يأتي بأمور كثيرة لا توجد في التوراة والإنجيل ، وذلك تصديق قول المسيح عليه الصلاة والسلام أنه يخبر بكل ما يأتي ، وذلك يتضمن صدق المسيح وصدق محمد صلى الله عليه وسلم . وهذا معنى قوله [ ص: 331 ] تعالى : إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين . أي : مجيئه تصديق للرسل قبله ، فإنهم أخبروا بمجيئه فجاء كما أخبروا به ، فتضمن مجيئه تصديقهم ، ثم شهد هو بصدقهم فصدقهم بقوله ومجيئه .
ومحمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله بين يدي الساعة كما قال : صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا ذكر الساعة علا صوته واحمر وجهه ، واشتد غضبه ، وقال : بعثت أنا والساعة كهاتين ، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى . أنا النذير العريان
فأخبر من الأمور التي تأتي في المستقبل بما لم يأت به نبي من الأنبياء ، كما نعته به المسيح حيث قال : إنه يخبركم بكل ما يأتي ، ولا يوجد مثل هذا أصلا عن نبي من الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، فضلا عن أن يوجد في شيء أنزل على قلب بعض الحواريين . وأيضا فإنه قال : ويعرفكم جميع ما للرب .
فبين أنه يعرف الناس جميع ما لله ، وذلك يتناول ما لله من الأسماء والصفات ، وما له من الحقوق ، وما يجب من الإيمان به وملائكته وكتبه ورسله ، بحيث يكون ما يأتي به جامعا لما يستحقه الرب سبحانه وتعالى ، وهذا لم يأت به غير محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه تضمن ما جاء به من الكتاب والحكمة .
هذا كله ، وأيضا فإن المسيح قال : إذا جاء البارقليط الذي أرسله أبي فهو يشهد لي أني قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به .
فأخبر أنه شهد له ، وهذه صفة نبي بشر به المسيح ، ويشهد للمسيح ، كما قال [ ص: 332 ] تعالى : وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد .
وأخبر أنه يوبخ العالم على الخطيئة ، وهذا يستحيل حمله على معنى يقوم بقلب الحواريين ، فإنهم آمنوا به وشهدوا له قبل ذهابه ، فكيف يقول : إذا جاء فإنه يشهد لي ، ويوصيهم بالإيمان به ، أفترى الحواريين لم يكونوا مؤمنين بالمسيح ، فهذا من أعظم جهل النصارى وضلالهم .
وأيضا فإنه لم يوجد أحد وبخ جميع العالم على الخطيئة إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه أنذر جميع العالم من أصناف الناس ووبخهم على الخطيئة من الكفر والفسوق والعصيان ، ولم يقتصر على مجرد الأمر والنهي بل وبخهم وفزعهم وتهددهم .
وأيضا فإنه أخبر أنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع . وهذا إخبار بأن كل ما يتكلم به فهو وحي يسمعه ، ليس هو شيء تعلمه من الناس أو عرفه باستنباط ، وهذه خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وأما المسيح فكان عنده علم بما جاء به موسى قبله يشارك به أهل الكتاب ، تلقاه عمن قبله ، ثم جاءه وحي خاص من الله فوق ما كان عنده ، قال تعالى : ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل فأخبر سبحانه وتعالى أنه يعلمه التوراة التي تعلمها بنو إسرائيل ، وزاده تعليم الإنجيل الذي اختص به ، والكتاب الذي هو الكتابة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن تعلم قبل الوحي شيئا ألبتة ، كما قال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان .
[ ص: 333 ] وقال تعالى : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ، فلم يكن صلى الله عليه وسلم ينطق من تلقاء نفسه ، بل إنما كان نطقه بالوحي كما قال تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وهذا مطابق لقول المسيح : إنه لا يتكلم من تلقاء نفسه بل إنما يتكلم بما يوحى إليه .
فالله تعالى أمره أن يبلغ ما أنزل إليه ، وضمن له العصمة في تبليغ رسالاته ، فلهذا أرشد الناس إلى جميع الحق ، وألقى إلى الناس ما لم يكن غيره من الأنبياء ألقاه خوفا أن يقتله قومه ، وقد أخبر المسيح أنه لم يذكر لهم جميع ما عنده ، وأنهم لا يطيقون حمله ، وهم معترفون بأنه كان يخاف منهم إذا أخبرهم بحقائق الأمور ، ومحمد صلى الله عليه وسلم أيده الله سبحانه وتعالى تأييدا لم يؤيده لغيره ، فعصمه من الناس حتى لم يخف من شيء يقوله ، وأعطاه من البيان والعلم ما لم يؤته غيره .
فالكتاب الذي بعث به ، فيه بيان حقائق الغيب ما ليس في كتاب غيره ، وأيد أمته تأييدا طاقت به حمل ما ألقاه إليهم ، فلم يكونوا كأهل التوراة الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ، ولا كأهل الإنجيل الذين قال لهم المسيح : إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكن لا تستطيعون حمله .
ولا ريب أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل عقولا ، وأعظم إيمانا ، وأتم تصديقا وجهادا ، ولهذا كانت علومهم وأعمالهم القلبية وإيمانهم أعظم ، وكانت العبادات البدنية لغيرهم أعظم .
وأيضا فإنه أخبر عن الفارقليط أنه يشهد له ، وأنه يعلمهم كل شيء ، وأنه يذكرهم [ ص: 334 ] كل ما قال المسيح ، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا إذا شهد له شهادة يسمعها الناس عامة ، لا يكون هذا في قلب طائفة قليلة ، ولم يشهد أحد للمسيح شهادة يسمعها عامة الناس إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه أظهر أمر المسيح وشهد له بالحق ، حتى سمع شهادته له عامة أهل الأرض ، وعلموا أنه صدق المسيح ونزهه عما يقوله عليه اليهود من الافتراء وما غلت فيه النصارى .
فهو الذي شهد له بالحق . ولهذا لما سمع من الصحابة ما شهد به النجاشي محمد صلى الله عليه وسلم للمسيح ، قال لهم : ما زاد عيسى على ما قلتم هذا العود .
وجعل الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على الناس ، يشهدون عليه بما علموا من الحق ، إذ كانوا وسطا عدولا لا يشهدون بباطل ، فإن الشاهد لا يكون إلا عدلا ، بخلاف من جار في شهادته فزاد على الحق أو نقص منه ، كشهادة اليهود والنصارى في المسيح .
وأيضا فإن معنى الفارقليط : إن كان هو الحامد أو الحماد أو المحمود أو الحمد ، فهذا وصف ظاهر في محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه وأمته الحامدون الذين يحمدون الله على كل حال ، وهو صاحب لواء الحمد ، والحمد مفتاح خطبته ، ومفتاح صلاته ، ولما كان حمادا سمي بمثل وصفه محمدا على وزن : مكرم ومقدس ومعظم ، وهو الذي يحمد أكثر ما يحمد غيره ، ويستحق ذلك ، فلما كان حمادا لله كان محمدا ، وفي شعر حسان :
أغــر عليه للنبـوة خـاتم من الله ميمون يلوح ويشهــد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشـق له من اسمـه ليجـله
فذو العرش محمود وهذا محمـد
ومن الناس من يقول : معناه أنه أكثر حمدا لله من غيره ، وعلى هذا فيكون بمعنى الحامد والحماد ، وعلى الأول بمعنى المحمود .
وإذا كان الفارقليط بمعنى الحمد ، فهو تسمية بالمصدر مبالغة في كثرة الحمد ، كما يقال : رجل عدل ورضى ونظائر ذلك ، وبهذا يظهر سر ما أخبر به القرآن عن المسيح من قوله : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد .
فإن هذا هو معنى الفارقليط كما تقدم .
وفي التوراة ما ترجمته بالعربية : ( وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك قد باركت فيه وأثمرت ، وأكثره بـ ( مؤد مؤد ) هذه اللفظة " مؤد مؤد " على وزن عمر ، وقد اختلفت فيها علماء أهل الكتاب ، فطائفة تقول : معناها جدا جدا : أي كثيرا كثيرا ، فإن كان هذا معناها فهو بشارة بمن عظم من نبيه كثيرا كثيرا ، ومعلوم أنه لم يعظم من نبيه أكثر مما عظم محمد صلى الله عليه وسلم .
وقالت طائفة أخرى : بل هي صريح اسم محمد ، قالوا : ويدل عليه أن ألفاظ العبرانية قريبة من ألفاظ العربية ، فهي أقرب اللغات إلى العربية ، فإنهم يقولون لإسماعيل شماعيل ، وسمعتك شمعتخا ، ( وأنا : أنو ) ، وقدسك : قد شتخا ، وأنت أتا ، وإسرائيل : يسرائيل ، وتأمل قوله في التوراة : ( قدش لي خل بخور ريحم ببني يسرائيل بأدام وببهيما لي ) .
[ ص: 336 ] معناه : قدس لي كل بكر أو مولود رحم في بني إسرائيل من إنسان إلى بهيمة لي . وتأمل قوله : ( نابي أقيم لا هيم مفارت أخيهم كاموها أخا الاؤه يشماعون ) ، وإن معناه : نبيا أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك له تسمعون ، وكذلك قوله : ( أنتم عابريم بفبول آحيحيم بني عيصا ) معناه : أنتم عابرون في تخم إخوتكم بني العيص . ونظائر ذلك أكثر من أن تذكر .
فإذا أخذت لفظة ( مود مود ) وجدتها أقرب شيء إلى لفظة محمد ، وإذا أردت تحقيق ذلك فطابق بين ألفاظ العبرانية والعربية ، ولذلك يقولون : اصبوع ألوهيم ، أي : أصبع الله كتب له بها التوراة .
ويدل على ذلك أداة الباء في قوله : بمود مود ، ولا يقال أعظمه بجدا جدا ، بخلاف أعظمه بمحمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك فإنه عظم به وازداد شرفا إلى شرفه ، بل تعظيمه بمحمد ابنه صلى الله عليه وسلم فوق تعظيم كل والد لولده العظيم القدر ، فالله سبحانه وتعالى كثره بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وعلى التقديرين فالنص من أظهر البشارات به ، أما على هذا التفسير فظاهر جدا [ ص: 337 ] جدا ، وأما على التفسير الأول فإنما كثر إسماعيل وعظمه على إسحاق جدا جدا بابنه محمد صلى الله عليه وسلم . فإذا طابقت بين معنى البارقليط ومعنى مود مود ومعنى محمد وأحمد ونظرت إلى خصال الحمد التي فيه وتسميته أمته بالحامدين ، وافتتاح كتابه بالحمد ، وافتتاح الصلاة بالحمد ، وكثرة خصال الحمد التي فيه ، وفي أمته وفي دينه ، وفي كتابه ، وعرفت ما خلص به العالم من أنواع الشرك والكفر والخطايا والبدع ، والقول على الله بغير علم ، وما أعز الله به الحق وأهله ، وقمع به الباطل وحزبه ، تيقنت أنه الفارقليط بالاعتبارات كلها . فمن هذا الذي هو روح الحق الذي لا يتكلم إلا بما يوحى إليه ؟ ! ومن هو العاقب للمسيح ، والشاهد لما جاء به والمصدق له بمجيئه ؟ ! ومن ذا الذي أخبرنا بالحوادث والأزمنة المستقبلة كخروج الدجال ، وظهور الدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج يأجوج ومأجوج ، ونزول المسيح ابن مريم ، وظهور النار التي تحشر الناس ، وأضعاف أضعاف ذلك من الغيوب التي قبل يوم القيامة ، والغيوب الواقعة يوم القيامة من الصراط والميزان والحساب ، وأخذ الكتب بالأيمان والشمائل ، وتفاصيل ما في الجنة والنار مما لم يذكر في التوراة والإنجيل ، غير محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن الذي وبخ العالم على الخطايا سواه ؟ ! ومن الذي عرف الأمة ( ما ينبغي لله ) حق التعريف غيره ، ومن الذي يتكلم في هذا الباب بما لم يطق أكثر العالم أن يقبلوه غيره ، حتى عجزت عنه عقول كثيرة ممن صدقه وآمن به ، فساموه أنواع التحريف والتأويل بعجز عقولهم عن حمله ، كما قال أخوه المسيح صلوات الله عليهما وسلامه ؟ ومن الذي أرسل إلى جميع الخلق قولا وعملا واعتقادا في معرفة الله وأسمائه وصفاته وأحكامه وأفعاله وقضائه وقدره ، غيره صلى الله عليه وسلم ؟ ! ومن هو أركون العالم الذي أتى بعد المسيح غيره ؟ وأركون العالم هو عظيم العالم وكبير العالم ، وتأمل قول المسيح في هذه البشارة التي لا ينكرونها : أن أركون العالم سيأتي وليس لي من [ ص: 338 ] الأمر شيء ، كيف وهي شاهدة بنبوة المسيح وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم معا ، فإنه لما جاء صار الأمر له دون المسيح . فوجب على العالم كلهم طاعته والانقياد له ولأمره ، وصار الأمر له حقيقة . ولم يبق بأيدي النصارى إلا دين باطله أضعاف أضعاف حقه ، وحقه منسوخ بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ، فطابق قول المسيح قول أخيه محمد صلى الله عليه وسلم : ، وقوله في اللفظ الآخر : فأمكم بكتاب ربكم ، فتطابق قول الرسولين الكريمين صلى الله عليهما وسلم ، وبشر الأول بالثاني ، وصدق الثاني بالأول . ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيحكم بكتاب ربكم
وتأمل قوله في البشارة الأخرى : ألم تر إلى الحجر الذي أخره البناءون صار أسا للزاوية ؟ كيف تجده مطابقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : . مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأتمها إلا موضع لبنة منها ، فجعل الناس يطوفون بها ويعجبون منها ، ويقولون هلا وضعت تلك اللبنة ؟ فكنت أنا تلك اللبنة
وتأمل قول المسيح في هذه البشارة : إن ذلك لعجيب في أعيننا ، وتأمل قوله فيها : إن ملكوت الله سيؤخذ منكم ويدفع إلى أمة أخرى ، كيف تجده مطابقا لقوله تعالى : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون
وقوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون .
[ ص: 339 ] وتأمل قوله في البارقليط المبشر به : يفشي لكم الأسرار ، ويفسر لكم كل شيء ، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل .
كيف تجده مطابقا للواقع من كل وجه ، لقوله تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ، ولقوله تعالى : ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون .
وإذا تأملت التوراة والإنجيل والكتب ، وتأملت القرآن وجدته كالتفصيل لجملها ، والتأويل لأمثلتها ، والشرح لرموزها ، وهذا حقيقة قول المسيح : أجيئكم بالأمثال ويجيئكم بالتأويل ، ويفسر لكم كل شيء .
وإذا تأملت قوله : وكل شيء أعده الله لكم يخبركم به ، وتفاصيل ما أخبر به من الجنة والنار ، والثواب والعقاب ، تيقنت صدق الرسولين الكريمين ، ومطابقة الخبر المفصل عن محمد صلى الله عليه وسلم للخبر المجمل من أخيه المسيح عليه الصلاة والسلام . وتأمل قوله في البارقليط : وهو يشهد لي كما شهدت له ، كيف تجده منطبقا على محمد بن عبد الله ، وكيف تجده شاهدا بصدق الرسولين ، وكيف تجده صريحا في رجل يأتي بعد المسيح يشهد له بأنه عبد الله ورسوله ، كما شهد له المسيح ؟ ! فلقد أذن المسيح بنبوة محمد صلى الله وسلامه عليهما أذانا لم يؤذنه نبي قبله ، وأعلن بتكبير ربه أنى تكون له صاحبة أو ولد ؟ ثم رفع صوته بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إلها واحدا أحدا فردا صمدا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، ثم أعلن بشهادة أن محمدا عبده ورسوله ، الشاهد له بنبوته المؤيد بروح الحق ، الذي لا يقول من تلقاء نفسه بل يتكلم [ ص: 340 ] بما يوحى إليه ويعلمهم كل شيء ويخبر بما أعد الله لهم ، ثم رفع صوته بحي على الفلاح باتباعه والإيمان به وتصديقه ، وأنه ليس له من الأمر شيء ، وختم التأذين بأن ملكوت الله سيؤخذ ممن كذبه ، ويدفع إلى أتباعه والمؤمنين به ، فهلك من هلك عن بينة ، وعاش من عاش عن بينة ، فاستجاب أتباع المسيح حقا لهذا التأذين ، وأباه الكافرون والجاحدون ، فقال تعالى : إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون .
وهذه بشارة بأن المسلمين لا يزالون فوق النصارى إلى يوم القيامة ، فإن المسلمين هم أتباع المرسلين في الحقيقة ، وأتباع جميع الأنبياء ، لا أعداؤه ، وأعداؤه عباد الصليب ، الذين رضوا أن يكون إلها مصفوعا مصلوبا مقتولا ، ولم يرضوا أن يكون نبيا عبدا لله وجيها عنده مقربا لديه ، فهؤلاء أعداؤه حقا والمسلمون أتباعه حقا . والمقصود أن بشارة المسيح بالنبي صلى الله عليه وسلم فوق كل بشارة ، لما كان أقرب الأنبياء إليه وأولاهم به ، وليس بينه وبينه نبي مرسل صاحب شريعة وكتاب .
( فصل ) : وتأمل قول المسيح : أن أركون العالم سيأتي ، وأركون العالم هو سيد العالم وعظيمه ، ومن الذي ساد العالم ، وأطاعه العالم بعد المسيح غير النبي عليه الصلاة والسلام ؟ ! وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل ما أول أمرك قال :أنا دعوة أبي إبراهيم وبشر بي عيسى .
وطابق بين هذا وبين هذه البشارة التي ذكرها المسيح ، فمن الذي ساد العالم باطنا وظاهرا ، وانقادت له القلوب والأجساد ، وأطيع في السر والعلانية ، في محياه وبعد مماته في [ ص: 341 ] جميع الأعصار ، وأفضل الأقاليم والأمصار ، وسارت دعوته مسير الشمس في الأقطار ، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار ، وخرت لمجيئه الأمم على الأذقان ، وبطلت به عبادة الأوثان ، وقامت به دعوة الرحمن ، واضمحلت به دعوة الشيطان ، وأذل الكافرين والجاحدين ، وأعز المؤمنين ، وجاء بالحق وصدق المرسلين ، حتى أعلن بالتوحيد على رءوس الأشهاد ، وعبد الله وحده لا شريك له في كل حاضر وباد ، وامتلأت به الأرض تحميدا لله وتسبيحا وتكبيرا ، واكتست به بعد الظلم والظلام عدلا ونورا ؟
( فصل ) : وطابق بين قول المسيح : أن أركون العالم سيأتيكم ، وقول أخيه محمد صلى الله عليه وسلم : . أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، آدم تحت لوائي ، وأنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا ، وإمامهم إذا اجتمعوا ، ومبشرهم إذا يئسوا ، لواء الحمد بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على ربي
( فصل ) : وفي قول المسيح في هذه البشارة : وليس لي من الأمر شيء ، إشارة إلى التوحيد وأن الأمر كله لله ، فتضمنت هذه البشارة أصلي الدين : إثبات التوحيد ، وإثبات النبوة .
وهذا الذي قاله المسيح مطابق لما جاء به أخوه محمد بن عبد الله عن ربه من قوله : ليس لك من الأمر شيء
فمن تأمل حال الرسولين الكريمين ودعوتهما وجدهما متوافقين متطابقين حذو القذة بالقذة ، وأنه لا يمكن التصديق بأحدهما مع التكذيب بالآخر ألبتة ، فإن المكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم أشد تكذيبا للمسيح الذي هو المسيح ابن مريم عبد الله ورسوله ، وإن آمن بمسيح لا حقيقة له ولا وجود فهو أبطل الباطل .
[ ص: 342 ] وقد قال يوحنا في كتاب أخبار الحواريين ، وهو يسمونه افراكيس : يا أحبابي إياكم أن تؤمنوا بكل روح ، لكن ميزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها ، واعلموا أن كل روح تؤمن بأن يسوع المسيح قد جاء وكان جسدانيا فهي من عند الله ، وكل روح لا تؤمن بأن المسيح قد جاء وكان جسدانيا فليست من عند الله بل من المسيح الكذاب ، الذي هو الآن في العالم .