[ ص: 782 ] المسألة العشرون
أن قوله عليه الصلاة والسلام : إنه سيخرج من أمتي أقوام على وصف كذا ، يحتمل أمرين أحدهما : من يجري فيه هواه مجرى الكلب بصاحبه فلا يرجع عنه . والثاني : من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها
إن قوله عليه الصلاة والسلام : وأنه سيخرج في أمتي أقوام على وصف كذا ، يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى من تلك الأهواء ورآها وذهب إليها ، فإن هواه يجري فيه مجرى الكلب بصاحبه فلا يرجع أبدا عن هواه ولا يتوب من بدعته .
والثاني : أن يريد أن أمته من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة ومنهم من لا يكون كذلك ، فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها .
والذي يدل على صحة الأول هو النقل المقتضي الحجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم ، كقوله عليه الصلاة والسلام :
وقوله : يمرقون من الدين ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة ، وما أشبه ذلك ، ويشهد له الواقع ، فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها ، بل هو يزداد بضلالتها بصيرة .
روي عن أنه قال : مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برئ ، فأعقل ما يكون قد هاج . الشافعي
ويدل على صحة الثاني أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة [ ص: 783 ] له أصلا ، لأن العقل يجوز ذلك، والشرع إن يشأ على ما ظاهره العموم فعمومه إنما يعتبر عاديا ، والعادة إنما تقتضي في العموم الأكثرية ، لا نحتاج الشمول الذي يجزم به العقل إلا بحكم الاتفاق ، وهذا مبين في الأصول .
والدليل على ذلك أنا وجدنا من كان عاملا ببدع ثم تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها ، كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم - رضي الله عنهما - ، وكما رجع ابن عباس المهتدي والواثق وغيرهم ممن كان قد خرج عن السنة ثم رجع إليها ، وإذا جعل تخصيص بفرد لم يبق اللفظ عاما وحصل الانقسام .
وهذا الثاني هو الظاهر ، لأن الحديث أعطى أوله أن الأمة تفترق ذلك الافتراق من غير إشعار بإشراب أو عدمه ، ثم بين أن في أمته المفترقين عن الجماعة من يشرب تلك الأهواء ، فدل أن فيهم من لا يشربها ، وإن كان من أهلها .
ويبعد أن يريد أن في مطلق الأمة من يشرب تلك الأهواء ، إذ كان يكون في الكلام نوع من التداخل الذي لا فائدة فيه ، فإذا بين أن المعنى أنه يخرج في الأمة المفترقة بسبب الهوى من يتجارى به ذلك الهوى استقام الكلام واتسق ، وعند ذلك يتصور الانقسام . وذلك بأن يكون في الفرقة من يتجارى به الهوى كتجاري الكلب ، ومن لا يتجارى به ذلك المقدار ، لأنه يصح أن يختلف التجاري ، فمنه ما يكون في الغاية حتى يخرج إلى الكفر أو يكاد ، ومنه ما لا يكون كذلك .
فمن القسم الأول الخوارج بشهادة الصادق المصدوق رسول الله [ ص: 784 ] صلى الله عليه وسلم حيث قال :
، ومنه هؤلاء الذين أغرقوا في البدعة حتى اعترضوا على كتاب الله وسنة نبيه ، وهم بالتكفير أحق من غيرهم ممن لم يبلغ مبلغهم . يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية
ومن القسم الثاني أهل التحسين والتقبيح على الجملة ، إذا لم يؤدهم عقلهم إلى ما تقدم .
ومنه ما ذهب إليه الظاهرية - على رأي من عدها من البدع - وما أشبه ذلك . وذلك أنه يقول : من خرج عن الفرق ببدعته وإن كانت جزئية فلا يخلو صاحبها من تجاريها في قلبه وإشرابها له ، لكن على قدرها ، وبذلك أيضا تدخل تحت ما تقدم من الأدلة على أن لا توبة له ، لكن التجاري المشبه بالكلب لا يبلغه كل صاحب بدعة ، إلا أنه يبقى وجه التفرقة بين من أشرب قلبه بدعة من البدع ذلك الإشراب ، وبين من لم يبلغ ممن هو معدود في الفرق ، فإن الجميع متصفون بوصف الفرقة التي هي نتيجة العداوة والبغضاء .
وسبب التفريق بينهما - والله أعلم - أمران : إما أن يقال : إن الذي أشربها من شأنه أن يدعو إلى بدعته، فيظهر بسببها المعاداة ، والذي لم يشربها لا يدعو إليها ولا ينتصب للدعاء إليها، ووجه ذلك أن الأول لم يدع إليها إلا وهي وقد بلغت من قلبه مبلغا عظيما بحيث يطرح ما سواها في جنبها ، حتى صار ذا بصيرة فيها لا ينثني عنها ، وقد أعمت بصره وأصمت سمعه واستولت على كليته وهي غاية [ ص: 785 ] المحبة . ومن أحب شيئا من هذا النوع من المحبة والى بسببه وعادى ، ولم يبال بما لقي في طريقه ، بخلاف من لم يبلغ ذلك المبلغ ، فإنما هي عنده بمنزلة مسألة علمية حصلها ، ونكتة اهتدى إليها فهي مدخرة في خزانة حفظه يحكم بها على من وافق وخالف ، لكن بحيث يقدر على إمساك نفسه عن الإظهار مخافة النكال والقيام عليه بأنواع الإضرار ، ومعلوم أن كل من داهن على نفسه في شيء وهو قادر على إظهاره لم يبلغ منه ذلك الشيء مبلغ الاستيلاء ، فكذلك البدعة إذا استخفى بها صاحبها .
وإما أن يقال : إن من أشربها ناصب عليها بالدعوة المقترنة بالخروج عن الجماعة والسواد الأعظم ، وهي الخاصية التي ظهرت في الخوارج وسائر من كان على رأيهم .
ومثل ما حكى ابن العربي في العواصم قال : أخبرني جماعة من أهل السنة بمدينة السلام : أنه ورد بها الأستاذ من أبو القاسم عبد الكريم بن هوران القشيري الصوفي نيسابور فعقد مجلسا للذكر ، وحضر فيه كافة الخلق ، وقرأ القارئ : الرحمن على العرش استوى قال لي أخصهم : من أنت - يعني الحنابلة - يقومون في أثناء المجلس ويقولون قاعد ! قاعد ! بأرفع صوت وأبعده مدى ، وثار إليهم أهل السنة من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة ، وتثاور الفئتان وغلبت العامة ، فأحجروهم إلى مدرسة النظامية وحصروهم فيها ورموهم بالنشاب ، فمات منهم قوم ، وركب زعيم الكفاة وبعض الدارية فسكنوا ثورتهم .
[ ص: 786 ] فهذا أيضا ممن أشرب قلبه حب البدعة حتى أداه ذلك إلى القتل ، فكل من بلغ هذا المبلغ حقيق أن يوصف بالوصف الذي وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن بلغ من ذلك الحرب .
وكذلك هؤلاء الذين داخلوا الملوك فأدلوا إليهم بالحجة الواهية ، وصغروا في أنفسهم حملة السنة وحماة الملة ، حتى وقفوهم مواقف البلوى ، وأذاقوهم مرارة البأساء والضراء ، وانتهى بأقوام إلى القتل ، حسبما وقعت المحنة به زمان في حضرة بشر المريسي المأمون وغيرهما . وابن أبي دؤاد
فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها هذه المناصبة فهو غير مشرب حبها في قلبه كالمثال في الحديث ، وكم من أهل بدعة لم يقوموا ببدعتهم قيام الخوارج وغيرهم ، بل استتروا بها جدا ، ولم يتعرضوا للدعاء إليها جهارا ، كما فعل غيرهم ، ومنهم من يعد في العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم شهرتهم بما انتحلوه .
فهذا الوجه يظهر أنه أولى الوجوه بالصواب ، وبالله التوفيق .