المسألة الحادية والعشرون
أن هذا الإشراب المشار إليه هل يختص ببعض البدع دون بعض أم لا يختص ؟ وذلك أنه يمكن أن بعض ، ومنها ما لا يكون كذلك ، فالبدعة الفلانية مثلا من شأنها أن تتجارى بصاحبها كما يتجارى الكلب بصاحبه والبدعة الفلانية ليست [ ص: 787 ] كذلك ، فبدعة البدع من شأنها أن تشرب قلب صاحبها جدا الخوارج مثلا في طرف الإشراب كبدعة المنكرين للقياس في الفروع الملتزمين الظاهر في الطرف الآخر ، ويمكن أن يتجارى ذلك في كل بدعة على العموم فيكون من أهلها من تجارت به كما يتجارى الكلب بصاحبه ، ، حسبما تقدم النقل عنه أنه أنكر بسبب القول به سورة كعمرو بن عبيد تبت يدا أبي لهب وقوله تعالى : ذرني ومن خلقت وحيدا ومنهم من لم يبلغ به الحال إلى هذا النحو كجملة من علماء المسلمين ، كالفارسي النحوي . وابن جني
والثاني : بدعة الظاهرية فإنها تجارت بقوم حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى : على العرش استوى قاعد ! قاعد ! وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه ، ولم يبلغ بقوم آخرين ذلك المقدار ، كداود بن علي في الفروع وأشباهه .
والثالث : ، فحكى بدعة التزام الدعاء بإثر الصلوات دائما على الهيئة الاجتماعية ، فإنها بلغت بأصحابها إلى أن كان الترك لها موجبا للقتل عنده حكاية عن القاضي أبو الخطاب بن خليل أبي عبد الله بن مجاهد العابد : أن رجلا من عظماء الدولة وأهل الوجاهة فيها - وكان موصوفا بشدة السطو وبسط اليد - نزل في جوار ابن مجاهد وصلى في مسجده الذي كان يؤم فيه ، وكان لا يدعو في أخريات الصلوات تصميما في ذلك [ ص: 788 ] على المذهب ( يعني مذهب مالك ) لأنه مكروه في مذهبه . وكان ابن مجاهد محافظا عليه . فكره ذلك الرجل منه ترك الدعاء وأمره أن يدعو فأبى ، وبقي على عادته في تركه في أعقاب الصلوات ، فلما كان في بعض الليالي صلى ذلك الرجل العتمة في المسجد ، فلما انقضت وخرج ذلك الرجل إلى داره قال لمن حضره من أهل المسجد : قد قلنا لهذا الرجل يدعو إثر الصلوات فأبى ، فإذا كان في غدوة غد أضرب رقبته بهذا السيف وأشار في يده فخافوا على ابن مجاهد من قوله لما علموا منه ، فرجعت الجماعة بجملتها إلى دار ابن مجاهد ، فخرج إليهم وقال : ما شأنكم ؟ فقال لهم : والله لقد خفنا من هذا الرجل ، وقد اشتد الآن غضبه عليك في تركك الدعاء . فقال لهم : لا أخرج عن عادتي ، فأخبروه بالقصة . فقال لهم - وهو مبتسم - : انصرفوا ولا تخافوا فهو الذي تضرب رقبته في غدوة غد بذلك السيف بحول الله ، ودخل داره ، وانصرفت الجماعة على ذعر من قول ذلك الرجل . فلما كان مع الصبح وصل إلى دار الرجل قوم من أهل المسجد ومن علم حال البارحة حتى وصلوا إليه إلى دار الإمامة بباب جوهر من إشبيلية ، وهناك أمر بضرب رقبته بسيفه ، فكان ذلك تحقيقا للإجابة وإثباتا للكرامة .
وقد روى بعض الإشبيليين الحكاية بمعنى هذه لكن على نحو آخر .
ولما رد ولد ابن الصقر على الخطيب في خطبته وذلك حين فاه باسم المهدي وعصمته ، أراد المرتضى من ذرية عبد المؤمن - وهو إذ ذاك [ ص: 789 ] خليفة - أن يسجنه على قوله ، فأبى الأشياخ والوزراء من فرقة الموحدين إلا قتله ، فغلبوا على أمره فقتلوه خوفا أن يقول ذلك غيره . فتختل عليهم القاعدة التي بنوا دينهم عليها .
وقد لا تبلغ البدعة في الإشراب ذلك المقدار فلا يتفق الخلاف فيها بما يؤدي إلى مثل ذلك .
فهذه الأمثلة بينت بالواقع مراد الحديث - على فرض صحته - فإن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم إنما تكون ابتناء على وفق مخبره من غير تخلف ألبتة .
ويشهد لهذا التفسير استقراء أحوال الخلق من انقسامها إلى الأعلى والأدنى والأوسط ، كالعلم والجهل ، والشجاعة والجبن ، والعدل والجور ، والجود والبخل ، والغنى والفقر ، والعز والذل ، وغير ذلك من الأحوال والأوصاف، فإنها تتردد ما بين الطرفين : فعالم في أعلى درجات العلم ، وآخر في أدنى درجاته، وجاهل كذلك ، وشجاع كذلك ، إلى سائرها .
فكذلك سقوط البدع بالنفوس ، إلا أن في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها فائدة أخرى ، وهي التحذير من مقاربتها ومقاربة أصحابها وهي :