قال المصنف رحمه الله : وقد تكلم الناس في الغناء فأطالوا فمنهم من حرمه ومنهم من أباحه من غير كراهة ومنهم من كرهه مع الإباحة وفصل الخطاب أن نقول ينبغي أن ينظر في ماهية الشيء ثم يطلق عليه التحريم أو الكراهة أو غير ذلك والغناء اسم يطلق على أشياء منها غناء الحجيج في الطرقات فإن أقواما من الأعاجم يقدمون للحج فينشدون في الطرقات أشعارا يصفون فيها الكعبة وزمزم والمقام وربما ضربوا مع إنشادهم بطبل فسماع تلك الأشعار مباح وليس إنشادهم إياها مما يطرب ويخرج عن الاعتدال وفي معنى هؤلاء الغزاة : فإنهم ينشدون أشعارا يحرضون بها على الغزو . وفي معنى هذا وفي معنى هذا أشعار الحداة في طريق إنشاد المبارزين للقتال للأشعار تفاخرا عند النزال مكة كقول قائلهم :
بشرها دليلها وقالا غدا ترين الطلح والجبالا
وهذا يحرك الإبل والآدمي . إلا أن ذلك التحريك لا يوجب الطرب المخرج عن حد الاعتدال .وأصل الحداء ما أنبأنا به يحيى بن الحسن بن البنا ، نا أبو جعفر بن المسلمة ، نا المخلص ، نا أحمد بن سليمان الطوسي ، ثنا ثني الزبير بن بكار ، ثنا إبراهيم بن المنذر أبو البحتري وهب ، عن طلحة المكي عن بعض علمائهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مال ذات ليلة بطريق مكة إلى حاد مع قوم فسلم عليهم فقال إن حادينا نام فسمعنا حاديكم فملت إليكم . فهل تدرون أنى كان الحداء قالوا لا والله قال إن أباهم مضر خرج إلى بعض رعاته فوجد إبله قد تفرقت فأخذ عصا فضرب بها كف غلامه فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح يا يداه يا يداه فسمعت الإبل ذلك فعطفت عليه فقال مضر لو اشتق مثل هذا لانتفعت به الإبل واجتمعت فاشتقت الحداء .
قال المصنف رحمه الله : وقد أنجشة يحدو فتعنق الإبل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أنجشة رويدك سوقا بالقوارير كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاد يقال له وفي [ ص: 217 ] حديث قال سلمة بن الأكوع لعامر بن الأكوع . ألا تسمعنا من هنياتك . وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدوا بالقول يقول :
لا هم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فألقين سكينة علينا وثبت الأقدام إذ لاقينا
قال المصنف رحمه الله : وقد روينا عن رضي الله عنه أنه قال أما الشافعي فلا بأس به . استماع الحداء ونشيد الأعراب
قال المصنف رحمه الله : ومن إنشاد العرب قول أهل المدينة عند قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داعي
قال المصنف رحمه الله : والظاهر من هاتين الجاريتين صغر السن لأن كانت صغيرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرب إليها الجواري فيلعبن معها . وقد أخبرنا عائشة ، نا محمد بن ناصر أبو الحسين بن عبد الجبار ، نا أبو إسحاق البرمكي أنبأنا عبد العزيز بن جعفر ، ثنا أخبرنا أبو بكر الخلال منصور بن الوليد بن جعفر بن [ ص: 218 ] محمد حدثهم . قال : قلت حديث لأبي عبد الله أحمد بن حنبل ، عن الزهري عروة عن جوار يغنين - أي شيء هذا الغناء . قال : غناء الركب : أتيناكم أتيناكم عائشة . قال عن الخلال وحدثنا أحمد بن فرج الحمصي ، ثنا ، ثنا يحيى بن سعيد ، عن أبو عقيل نهبة عن رضي الله عنها . قالت : عائشة كانت عندنا جارية يتيمة من الأنصار فزوجناها رجلا من الأنصار فكنت فيمن أهداها إلى زوجها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة إن الأنصار أناس فيهم غزل : فما قلت : قالت دعونا بالبركة : قال أفلا قلتم :
أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم
ولولا الذهب الأحمـ ـر ما حلت بواديكم
ولولا الحبة السمرا ء لم تسمعن عذاريكم
أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم
قال المصنف رحمه الله : فقد بان بما ذكرنا ما كانوا يغنون به وليس مما يطرب ولا كانت دفوفهن على ما يعرف اليوم . ومن ذلك كقول بعضهم : أشعار ينشدها المتزهدون بتطريب وتلحين تزعج القلوب إلى ذكر الآخرة ويسمونها الزهديات
يا غاديا في غفلة ورائحا إلى متى تستحسن القبائحا
وكم إلى كم لا تخاف موقفا يستنطق الله به الجوارحا
يا عجبا منك وأنت مبصر كيف تجنبت الطريق الواضحا
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني
فأما مما يحرك الطباع ويخرجها عن الاعتدال ويثير كامنها من حب اللهو وهو الغناء المعروف في هذا الزمان مثل قول الشاعر : الأشعار التي ينشدها المغنون المتهيئون للغناء ويصفون فيها المستحسنات والخمر وغير ذلك
ذهبي اللون تحسب من وجنتيه النار تقتدح
خوفوني من فضيحته ليته وافى وأفتضح