المسألة الثانية
، وإن كان محصلا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد يلزمه اتباع قول المجتهدين والأخذ بفتواه عند المحققين من الأصوليين . العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد
ومنع من ذلك بعض معتزلة البغداديين وقالوا : لا يجوز ذلك إلا بعد أن يتبين له صحة اجتهاده بدليله .
ونقل عن الجبائي أنه أباح ذلك في مسائل الاجتهاد دون غيرها كالعبادات الخمس .
والمختار إنما هو المذهب الأول ، ويدل عليه النص والإجماع والمعقول .
أما النص فقوله تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) وهو عام لكل المخاطبين ، ويجب أن يكون عاما في السؤال عن كل ما لا يعلم ، بحيث يدخل فيه محل النزاع [1] وإلا كان متناولا لبعض ما لا يعلم بعينه أو لا بعينه . . . ، والأول غير مأخوذ من دلالة اللفظ ، والثاني يلزم منه تخصيص ما فهم من معنى الأمر بالسؤال ، وهو طلب الفائدة ببعض الصور دون البعض ، وهو خلاف الأصل ، وإذا كان عاما في الأشخاص وفي كل ما ليس بمعلوم فأدنى درجات قوله : ( فاسألوا ) الجواز ، وهو خلاف مذهب الخصوم .
[ ص: 229 ] وأما الإجماع : فهو أنه لم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في الأحكام الشرعية ، والعلماء منهم يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل ، ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير ، فكان إجماعا على جواز مطلقا . اتباع العامي للمجتهد
وأما المعقول : فهو أن من ليس له أهلية الاجتهاد إذا حدثت به حادثة فرعية .
إما أن لا يكون متعبدا بشيء ، وهو خلاف الإجماع من الفريقين وإن كان متعبدا بشيء فإما بالنظر في الدليل المثبت للحكم ، أو بالتقليد ، الأول ممتنع ؛ لأن ذلك مما يفضي في حقه وفي حق الخلق أجمع إلى النظر في أدلة الحوادث والاشتغال عن المعايش وتعطيل الصنائع والحرف وخراب الدنيا وتعطيل الحرث والنسل ورفع الاجتهاد والتقليد رأسا ، وهو من الحرج والإضرار المنفي بقوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ، وبقوله - عليه السلام - : " " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام [2] وهو عام في كل حرج وضرار ، ضرورة كونه نكرة في سياق النفي .
غير أنا خالفناه في امتناع التقليد في أصول الدين ؛ لما بيناه من الفرق في مسألة امتناع التقليد في أصول الدين [3] ، ولأن الوقائع الحادثة الفقهية أكثر بأضعاف كثيرة من المسائل الأصولية التي قيل فيها بامتناع التقليد ، فكان الحرج في إيجاب الاجتهاد فيها أكثر ، فبقينا فيما عدا ذلك عاملين بقضية الدليل ، وهو عام في المسائل الاجتهادية وغيرها .
فإن قيل : ما ذكرتموه معارض بالكتاب والسنة والمعقول .
أما الكتاب فقوله تعالى : ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون )
والقول بالتقليد قول بما ليس بمعلوم فكان منهيا عنه .
[ ص: 230 ] وأيضا قوله تعالى حكاية عن قوم : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ذكر ذلك في معرض الذم للتقليد ، والمذموم لا يكون جائزا .
وأما السنة : فقوله - عليه السلام - : " " طلب العلم فريضة على كل مسلم [4] ، وقوله - عليه السلام - : " " اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له [5] ، والنصان عامان في الأشخاص وفي كل علم ، وهما يدلان على وجوب النظر .
وأما المعقول : فمن وجهين :
الأول : أن العامي لو كان مأمورا بالتقليد فلا يأمن أن يكون من قلده مخطئا ، وأنه كاذب فيما أخبره به ، فيكون العامي مأمورا باتباع الخطإ والكذب ، وذلك على الشارع ممتنع .
الثاني : أن الفروع والأصول مشتركة في التكليف بها ، فلو جاز التقليد في الفروع لمن ظهر صدقه فيما أخبر به لجاز ذلك في الأصول .
والجواب عن الآية الأولى : أنها مشتركة الدلالة ، فإن النظر أيضا والاجتهاد في المسائل الاجتهادية قول بما ليس بمعلوم .
ولا بد من سلوك أحد الأمرين ، وليس في الآية دليل على تعيين امتناع أحدهما كيف ويجب حملها على ما لا يعلم فيما يشترط فيه العلم تقليلا لتخصيص العموم ، ولما فيه من موافقة ما ذكرناه من الأدلة .
[ ص: 231 ] وعن الآية الثانية : بوجوب حملها على ذم التقليد فيما يطلب فيه العلم جمعا بينها وبين ما ذكرناه من الأدلة .
وعن الخبر الأول : أنه متروك بالإجماع في محل النزاع ، فإن القائل فيه قائلان : قائل بأن الواجب التقليد ، وقائل إن الواجب إنما هو النظر ، والعلم غير مطلوب فيهما إجماعا .
وعن الثاني : لا نسلم دلالته على الوجوب على ما سبق تعريفه [6] ، وإن دل على وجوب الاجتهاد ، لكنه لا عموم له بالنسبة إلى كل مطلوب حتى يدخل فيه محل النزاع [7] ، وإن كان عاما بلفظه لكن يجب حمله على من له أهلية الاجتهاد جمعا بينه وبين ما ذكرناه من الأدلة .
وعن الوجه الأول من المعقول : أنه وإن اجتهد العامي فلا نأمن من وقوع الخطإ منه ، بل هو أقرب إلى الخطإ لعدم أهليته ، والمحذور يكون مشتركا .
وعن الوجه الثاني : ما سبق من الفرق .
[8]