[ ص: 162 ] القاعدة الثالثة
في المجتهدين وأحوال المفتين والمستفتين وتشتمل على بابين :
الباب الأول : في المجتهدين
ويشتمل على مقدمة ومسائل :
أما المقدمة : ففي تعريف ، والمجتهد ، والمجتهد فيه . معنى الاجتهاد
أما ( الاجتهاد ) : فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة ، ولهذا يقال : اجتهد فلان في حمل حجر البزارة ، ولا يقال : اجتهد في حمل خردلة .
وأما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه .
فقولنا : ( استفراغ الوسع ) كالجنس للمعنى اللغوي والأصولي ، وما وراءه خواص مميزة للاجتهاد بالمعنى الأصولي .
وقولنا : ( في طلب الظن ) احتراز عن الأحكام القطعية .
وقولنا : ( بشيء من الأحكام الشرعية ) ليخرج عنه الاجتهاد في المعقولات والمحسات وغيرها .
وقولنا : ( بحيث يحس من النفس العجز عن المزيد فيه ) ليخرج عنه اجتهاد المقصر في اجتهاده مع إمكان الزيادة عليه ، فإنه لا يعد في اصطلاح الأصوليين اجتهادا معتبرا .
وأما : ( ) فكل من اتصف بصفة الاجتهاد وله شرطان . المجتهد
[1] الشرط الأول : أن يعلم وجود الرب تعالى وما يجب له من الصفات ، ويستحقه من الكمالات ، وأنه واجب الوجود لذاته ، حي ، عالم ، قادر ، مريد ، متكلم ، حتى يتصور منه التكليف ، وأن يكون مصدقا بالرسول وما جاء به من الشرع [ ص: 163 ] المنقول بما ظهر على يده من المعجزات والآيات الباهرات ، ليكون فيما يسنده إليه من الأقوال والأحكام محققا .
ولا يشترط أن يكون عارفا بدقائق علم الكلام متبحرا فيه كالمشاهير من المتكلمين ، بل أن يكون عارفا بما يتوقف عليه الإيمان مما ذكرناه .
ولا يشترط أن يكون مستند علمه في ذلك الدليل المفصل بحيث يكون قادرا على تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه ، كالجاري من عادة الفحول من أهل الأصول ، بل أن يكون عالما بأدلة هذه الأمور من جهة الجملة لا من جهة التفصيل .
الشرط الثاني : أن يكون عالما عارفا بمدارك الأحكام الشرعية ، وأقسامها ، وطرق إثباتها ، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها ، واختلاف مراتبها ، والشروط المعتبرة فيها على ما بيناه ، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها ، وكيفية استثمار الأحكام منها ، قادرا على تحريرها وتقريرها والانفصال عن الاعتراضات الواردة عليها .
وإنما يتم ذلك بأن يكون عارفا بالرواة وطرق الجرح والتعديل والصحيح والسقيم ، لا كأحمد بن حنبل ، وأن يكون عارفا بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ في النصوص الإحكامية ، عالما باللغة والنحو . ويحيى بن معين
ولا يشترط أن يكون في اللغة ، وفي النحو كالأصمعي كسيبويه والخليل ، بل أن يكون قد حصل من ذلك على ما يعرف به أوضاع العرب والجاري من عاداتهم في المخاطبات بحيث يميز بين دلالات الألفاظ من : المطابقة ، والتضمن ، والالتزام [2] ، والمفرد والمركب ، والكلي والجزئي ، والحقيقة والمجاز ، والتواطؤ والاشتراك ، والترادف والتباين ، والنص والظاهر ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمنطوق [ ص: 164 ] والمفهوم ، والاقتضاء ، والإشارة ، والتنبيه ، والإيماء ، ونحو ذلك مما فصلناه ، ويتوقف عليه استثمار الحكم من دليله .
وذلك كله أيضا إنما يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه .
وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل ، فيكفي فيه أن يكون عارفا بما يتعلق بتلك المسألة ، وما لا بد منه فيها ، ولا يضره في ذلك جهله بما لا تعلق له بها مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية ، كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدا في المسائل المتكثرة بالغا رتبة الاجتهاد فيها ، وإن كان جاهلا ببعض المسائل الخارجة عنها ، فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالما بجميع أحكام المسائل ومداركها ، فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر .
ولهذا نقل عن مالك أنه سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين منها : " لا أدري " .
وأما ما فيه الاجتهاد ، فما كان من الأحكام الشرعية دليله ظني .
فقولنا : ( من الأحكام الشرعية ) تمييز له عما كان من القضايا العقلية واللغوية وغيرها .
وقولنا : ( دليله ظني ) تمييز له عما كان دليله منها قطعيا كالعبادات الخمس ونحوها ، فإنها ليست محلا للاجتهاد فيها لأن المخطئ فيها يعد آثما ، والمسائل الاجتهادية ما لا يعد المخطئ فيها باجتهاده آثما .
[3] هذا ما أردناه من بيان المقدمة . . . ، وأما المسائل فاثنتا عشرة مسألة .