[ ص: 79 ] المسألة التاسعة
كون الشارع قاصدا للمحافظة على القواعد الثلاث الضرورية ، والحاجية ، والتحسينية ، لا بد عليه من دليل يستند إليه ، والمستند إليه في ذلك ، إما أن يكون دليلا ظنيا أو قطعيا ، وكونه ظنيا باطل ، مع أنه أصل من أصول الشريعة ، بل هو أصل أصولها ، حسب ما تبين في موضعه ، فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية ، ولو جاز إثباتها بالظن ، لكانت الشريعة مظنونة أصلا وفرعا ، وهذا باطل ، فلا بد أن تكون قطعية ، فأدلتها قطعية بلا بد . وأصول الشريعة قطعية
فإذا ثبت هذا ، فكون هذا الأصل مستندا إلى دليل قطعي مما ينظر فيه ، فلا يخلو أن يكون عقليا أو نقليا .
فالعقلي لا موقع له هنا; لأن ذلك راجع إلى تحكيم العقول في الأحكام الشرعية ، وهو غير صحيح ، فلا بد أن يكون نقليا .
والأدلة النقلية; إما أن تكون نصوصا جاءت متواترة السند لا يحتمل متنها التأويل على حال ، أو لا ، فإن لم تكن نصوصا ، أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر; فلا يصح استناد مثل هذا إليها; لأن ما هذه صفته لا يفيد القطع ، وإفادة القطع هو المطلوب وإن كانت نصوصا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند ، فهذا مفيد للقطع ، إلا أنه متنازع في وجوده بين العلماء .
والقائل بوجوده مقر بأنه لا يوجد في كل مسألة تفرض في الشريعة ، بل يوجد في بعض المواضع دون بعض ، ولم يتعين أن مسألتنا من المواضع التي جاء فيها دليل قطعي .
والقائل بعدم وجوده في الشريعة يقول : إن ، والموقوف على [ ص: 80 ] الظني لا بد أن يكون ظنيا; فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو ، وعدم الاشتراك ، وعدم المجاز ، وعدم النقل الشرعي أو العادي ، وعدم الإضمار ، وعدم التخصيص للعموم ، وعدم التقييد للمطلق ، وعدم الناسخ ، وعدم التقديم والتأخير ، وعدم المعارض العقلي ، وجميع ذلك أمور ظنية . التمسك بالدلائل النقلية إذا كانت متواترة موقوف على مقدمات عشر كل واحدة منها ظنية
ومن المعترفين بوجوده من اعترف بأن الدلائل في أنفسها لا تفيد قطعا ، لكنها إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين ، وهذا لا يدل قطعا على أن دليل مسألتنا من هذا القبيل; لأن ، وإلا لزم أن تكون أدلة الشرع كلها قطعية ، وليس كذلك باتفاق ، وإذا كانت لا تلزم ، ثم وجدنا القرائن المفيدة لليقين غير لازمة لكل دليل ، أو المتن والدلالة معا ، ولا سيما مع افتقار الأدلة إلى النظر في جميع ما تقدم ، دل ذلك على أن أكثر الأدلة الشرعية ظنية الدلالة ، على قول المقرين بذلك ، وغير موجود على قول الآخرين . اجتماع القرائن المفيدة للقطع واليقين نادر
فثبت أن دليل هذه المسألة على التعيين غير متعين .
ولا يقال : إن الإجماع كاف ، وهو دليل قطعي; لأنا نقول : هذا أولا : مفتقر إلى نقل الإجماع على اعتبار تلك القواعد الثلاث شرعا ، نقلا متواترا عن جميع أهل الإجماع ، وهذا يعسر إثباته ولعلك لا تجده ، ثم نقول :
[ ص: 81 ] ثانيا : إن فرض وجوده; فلا بد من دليل قطعي يكون مستندهم ، ويجتمعون على أنه قطعي; فقد يجتمعون على دليل ظني ، فتكون المسألة ظنية لا قطعية ، فلا تفيد اليقين; لأن ، فإن اجتمعوا على مستند ظني ، فمن الناس من خالف في كون هذا الإجماع حجة . الإجماع إنما يكون قطعيا على فرض اجتماعهم على مسألة قطعية لها مستند قطعي
فإثبات المسألة بالإجماع لا يتخلص ، وعند ذلك يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعا بالدليل الشرعي القطعي .
وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة ، وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع ، وأن اعتبارها مقصود للشارع .
ودليل ذلك استقراء الشريعة ، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية ، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص ، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض مختلفة الأغراض; بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم ، وشجاعة علي - رضي الله عنه - ، وما أشبه ذلك; فلم يعتمد [ ص: 82 ] الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص ، ولا على وجه مخصوص ، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات ، والمطلقات والمقيدات ، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه ، وكل نوع من أنواعه حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد ، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة .
وعلى هذا السبيل أفاد خبر التواتر العلم ، إذ لو اعتبر فيه آحاد المخبرين ، لكان إخبار كل واحد منهم على فرض عدالته مفيدا للظن ، فلا يكون اجتماعهم يعود بزيادة على إفادة الظن ، لكن للاجتماع خاصية ليست للافتراق ، فخبر واحد مفيد للظن مثلا ، فإذا انضاف إليه آخر قوي الظن ، وهكذا خبر آخر وآخر حتى يحصل بالجميع القطع الذي لا يحتمل النقيض ، فكذلك هذا; إذ لا فرق بينهما من جهة إفادة العلم بالمعنى الذي تضمنته الأخبار .
وهذا بين في كتاب المقدمات من هذا الكتاب .
فإذا تقرر هذا; فمن كان من حملة الشريعة الناظرين في مقتضاها ، والمتأملين لمعانيها سهل عليه التصديق بإثبات مقاصد الشارع في إثبات هذه القواعد الثلاث .