كتاب الحج .
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما
[ كتاب الحج ]
والنظر في هذا الكتاب في ثلاثة أجناس :
الجنس الأول : يشتمل على الأشياء التي تجري من هذه العبادة مجرى المقدمات التي تجب معرفتها لعمل هذه العبادة .
الجنس الثاني : في الأشياء التي تجري منها مجرى الأركان ، وهي الأمور المعمولة أنفسها والأشياء المتروكة .
الجنس الثالث : في الأشياء التي تجري منها مجرى الأمور اللاحقة ، وهي أحكام الأفعال .
وذلك أن كل عبادة فإنها توجد مشتملة على هذه الأجناس .
الجنس الأول
[ معرفة الوجوب وشروطه ]
وهذا الجنس يشتمل على شيئين :
1 - على معرفة الوجوب وشروطها .
2 - وعلى من يجب ومتى يجب ؟ .
فأما وجوبه : فلا خلاف فيه لقوله - سبحانه - ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) .
[ ص: 266 ] وأما شروط الوجوب : فإن الشروط قسمان : شروط صحة ، وشروط وجوب .
فأما شروط الصحة : فلا خلاف بينهم أن من شروطه الإسلام ، إذ لا يصح . حج من ليس بمسلم : فذهب واختلفوا في صحة وقوعه من الصبي مالك إلى جواز ذلك ، ومنع منه والشافعي أبو حنيفة .
وسبب الخلاف : معارضة الأثر في ذلك للأصول ، وذلك أن من أجاز ذلك أخذ فيه بحديث المشهور ، وخرجه ابن عباس البخاري ومسلم . وفيه : " " . ومن منع ذلك تمسك بأن الأصل هو أن العبادة لا تصح من غير عاقل . أن المرأة رفعت إليه - عليه الصلاة والسلام - صبيا فقالت : ألهذا حج يا رسول الله ؟ قال : نعم ولك أجر
وكذلك اختلف أصحاب مالك في صحة وقوعها من الطفل الرضيع ، وينبغي أن لا يختلف في صحة وقوعه ممن يصح وقوع الصلاة منه ، وهو كما قال - عليه الصلاة والسلام - : " من السبع إلى العشر " . وأما شروط الوجوب : فيشترط فيها الإسلام ، على القول بأن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام ، ولا خلاف في اشتراط الاستطاعة في ذلك لقوله - تعالى - : ( من استطاع إليه سبيلا ) وإن كان في تفصيل ذلك اختلاف ، وهي بالجملة تتصور على نوعين : مباشرة ونيابة .
فأما المباشرة فلا خلاف عندهم أن من شرطها الاستطاعة بالبدن والمال مع الأمن . واختلفوا في تفصيل : فقال الاستطاعة بالبدن والمال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد - وهو قول ابن عباس - : إن من شرط ذلك الزاد والراحلة . وقال وعمر بن الخطاب مالك : في حقه بل يجب عليه الحج ، وكذلك ليس الزاد عنده من شرط الاستطاعة إذا كان ممن يمكنه الاكتساب في طريقه ولو بالسؤال . من استطاع المشي فليس وجود الراحلة من شرط الوجوب
والسبب في هذا الخلاف معارضة الأثر الوارد في تفسير الاستطاعة لعموم لفظها ، وذلك أنه ورد أثر عنه - عليه الصلاة والسلام - : " " . فحمل أنه سئل ما الاستطاعة فقال : الزاد والراحلة أبو حنيفة ذلك على كل مكلف ، وحمله والشافعي مالك على من لا يستطيع المشي ولا له قوة على الاكتساب في طريقه ، وإنما اعتقد هذا الرأي لأن من مذهبه إذا ورد الكتاب مجملا ، فوردت السنة بتفسير ذلك المجمل أنه ليس ينبغي العدول عن ذلك التفسير . الشافعي
وأما وجوبه باستطاعة النيابة مع العجز عن المباشرة : فعند مالك وأبي حنيفة أنه لا تلزم النيابة إذا استطيعت مع العجز عن المباشرة ، وعن أنها تلزم ، فيلزم على مذهبه الذي عنده مال بقدر أن يحج به عنه غيره إذا لم يقدر هو ببدنه أن يحج عنه غيره بماله ، وإن وجد من يحج عنه بماله وبدنه من أخ أو قريب سقط ذلك عنه ، وهي المسألة التي يعرفونها بالمعضوب - وهو الذي لا يثبت على الراحلة . الشافعي
وكذلك عنده الذي يلزم ورثته عنده أن يخرجوا من ماله بما يحج به عنه . وسبب الخلاف في هذا معارضة القياس للأثر ، وذلك أن القياس يقتضي أن العبادات لا ينوب فيها أحد عن أحد ، فإنه لا يصلي أحد عن أحد باتفاق، ولا يزكي أحد عن أحد . يأتيه الموت ولم يحج
وأما الأثر المعارض لهذا : فحديث المشهور ، خرجه الشيخان ، وفيه : " ابن عباس قال : نعم " فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ وذلك في حجة الوداع . فهذا في الحي . أن امرأة من خثعم قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ؛
[ ص: 267 ] وأما في الميت فحديث أيضا خرجه ابن عباس قال : " البخاري " . ولا خلاف بين المسلمين أنه يقع عن الغير تطوعا ، وإنما الخلاف في وقوعه فرضا . جاءت امرأة من جهينة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إن أمي نذرت الحج فماتت أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها ، أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيته ؟ دين الله أحق بالقضاء
واختلفوا من هذا الباب في هل من شرطه أن يكون قد حج عن نفسه أم لا ؟ فذهب بعضهم إلى أن ذلك ليس من شرطه ، وإن كان قد أدى الفرض عن نفسه فذلك أفضل ، وبه قال الذي يحج عن غيره سواء كان حيا أو ميتا مالك فيمن يحج عن الميت ، لأن الحج عنده عن الحي لا يقع . وذهب آخرون إلى أن من شرطه أن يكون قد قضى فريضة نفسه ، وبه قال وغيره إنه إن حج عن غيره من لم يقض فرض نفسه انقلب إلى فرض نفسه ، وعمدة هؤلاء حديث الشافعي : " ابن عباس " . والطائفة الأولى عللت هذا الحديث بأنه قد روي موقوفا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة ، قال : ومن شبرمة ؟ قال : أخ لي ، أو قال قريب لي ، قال : أفحججت عن نفسك ؟ قال : لا ، قال : فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة . ابن عباس
واختلفوا من هذا الباب في فكره ذلك الرجل يؤاجر نفسه في الحج مالك وقالا : إن وقع ذلك جاز ، ولم يجز ذلك والشافعي أبو حنيفة ، وعمدته أنه قربة إلى الله - عز وجل - فلا تجوز الإجارة عليه ، وعمدة الطائفة الأولى إجماعهم على جواز الإجارة في كتب المصاحف وبناء المساجد ، وهي قربة .
والإجارة في الحج عند مالك نوعان :
أحدهما : الذي يسميه أصحابه على البلاغ ، وهو الذي يؤاجر نفسه على ما يبلغه من الزاد والراحلة ، فإن نقص ما أخذه عن البلاغ وفاه ما يبلغه ، وإن فضل عن ذلك شيء رده .
والثاني : على سنة الإجارة ، وإن نقص شيء وفاه من عنده وإن فضل شيء فله .
والجمهور على أن العبد لا يلزمه الحج حتى يعتق ، وأوجبه عليه بعض أهل الظاهر .
فهذه معرفة على من تجب هذه الفريضة وممن تقع .
وأما ؟ : فإنهم اختلفوا هل هي على الفور ، أو على التراخي ؟ والقولان متأولان على متى تجب مالك وأصحابه ، والظاهر عند المتأخرين من أصحابه أنها على التراخي وبالقول إنها على الفور قال البغداديون من أصحابه . واختلف في ذلك قول أبي حنيفة وأصحابه ، والمختار عندهم أنه على الفور . وقال : هو على التوسعة . الشافعي
وعمدة من قال : هو على التوسعة أن الحج فرض قبل حج النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنين ، فلو كان على الفور لما أخره النبي - عليه الصلاة والسلام - ، ولو أخره لعذر لبينه .
وحجة الفريق الثاني : أنه لما كان مختصا بوقت كان الأصل تأثيم تاركه حتى يذهب الوقت ، أصله وقت الصلاة ، والفرق عند الفريق الثاني بينه وبين الأمر بالصلاة أنه لا يتكرر وجوبه بتكرار الوقت ، والصلاة يتكرر وجوبها بتكرار الوقت .
وبالجملة : فمن شبه أول وقت من أوقات الحج الطارئة على المكلف المستطيع بأول الوقت من الصلاة [ ص: 268 ] قال : هو على التراخي ، ومن شبهه بآخر الوقت من الصلاة قال : هو على الفور ، ووجه شبهه بآخر الوقت أنه ينقضي بدخول وقت لا يجوز فيه فعله كما ينقضي وقت الصلاة بدخول وقت ليس يكون فيه المصلي مؤديا ، ويحتج هؤلاء بالغرر الذي يلحق المكلف بتأخيره إلى عام آخر بما يغلب على الظن من إمكان وقوع الموت في مدة العام ، ويرون أنه بخلاف تأخير الصلاة من أول الوقت إلى آخره ، لأن الغالب أنه لا يموت أحد في مقدار ذلك الزمان إلا نادرا ، وربما قالوا : إن التأخير في الصلاة يكون مع مصاحبة الوقت الذي يؤدي فيه الصلاة ، والتأخير هاهنا يكون مع دخول وقت لا تصح فيه العبادة ، فهو ليس يشبهه في هذا الأمر المطلق ، وذلك أن الأمر عند من يقول : إنه على التراخي ، ليس يؤدي التراخي فيه إلى دخول وقت لا يصح فيه وقوع المأمور فيه كما يؤدي التراخي في الحج إذا دخل وقته فأخره المكلف إلى قابل ، فليس الاختلاف في هذه المسألة من باب اختلافهم في مطلق الأمر هل هو على الفور أو على التراخي ؟ كما قد يظن .
واختلفوا من هذا الباب ؛ يطاوعها على الخروج معها إلى السفر للحج ؟ فقال هل من شرط وجوب الحج على المرأة أن يكون معها زوج أو ذو محرم منها مالك : ليس من شرط الوجوب ذلك ، وتخرج المرأة إلى الحج إذا وجدت رفقة مأمونة . وقال والشافعي أبو حنيفة وجماعة : وجود ذي المحرم ومطاوعته لها شرط في الوجوب .
وسبب الخلاف : معارضة الأمر بالحج والسفر إليه للنهي عن سفر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم . وذلك أنه ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس أنه قال - عليه الصلاة والسلام - : " وابن عمر يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم " . فمن غلب عموم الأمر قال : تسافر للحج وإن لم يكن معها ذو محرم ، ومن خصص العموم بهذا الحديث أو رأى أنه من باب تفسير الاستطاعة قال : لا تسافر للحج إلا مع ذي محرم . لا
فقد قلنا في وجوب هذا النسك الذي هو الحج ، وبأي شيء يجب ، وعلى من يجب ، ومتى يجب ؟ .
وقد بقي من هذا الباب القول في حكم النسك الذي هو العمرة ، فإن قوما قالوا : إنه واجب ، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد والثوري ، وهو قول والأوزاعي من الصحابة ابن عباس وجماعة من التابعين . وقال وابن عمر مالك وجماعة : هي سنة . وقال أبو حنيفة : هي تطوع ، وبه قال أبو ثور وداود ، فمن أوجبها احتج بقوله - تعالى - : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) وبآثار مروية ، منها : ما روي عن عن أبيه قال : " ابن عمر دخل أعرابي حسن الوجه أبيض الثياب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما الإسلام يا رسول الله ؟ فقال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم شهر رمضان ، وتحج وتعتمر ، وتغتسل من الجنابة " .
وذكر عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة أنه كان يحدث أنه : " لما نزلت : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باثنين حجة وعمرة فمن قضاها فقد قضى الفريضة " .
وروي عن عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " زيد بن ثابت الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت " .
[ ص: 269 ] وروي عن : " العمرة واجبة " . وبعضهم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . ابن عباس
وأما حجة الفريق الثاني - وهم الذين يرون أنها ليست واجبة - فالأحاديث المشهورة الثابتة الواردة في تعديد فرائض الإسلام من غير أن يذكر منها العمرة ، مثل حديث : " ابن عمر " فذكر الحج مفردا . ومثل حديث السائل عن الإسلام ، فإن في بعض طرقه : " بني الإسلام على خمس وأن يحج البيت " . وربما قالوا إن الأمر بالإتمام ليس يقتضي الوجوب ، لأن هذا يخص السنن والفرائض - أعني : إذا شرع فيها أن تتم ولا تقطع - .
واحتج هؤلاء أيضا - أعني : من قال إنها سنة - بآثار ، منها حديث عن الحجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر قال : " جابر بن عبد الله " . قال سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العمرة أواجبة هي ؟ قال : لا، ولأن تعتمر خير لك : وليس هو حجة فيما انفرد به ، وربما احتج من قال إنها تطوع بما روي عن أبو عمر بن عبد البر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبي صالح الحنفي " . وهو حديث منقطع . الحج واجب والعمرة تطوع
فسبب الخلاف في هذا هو تعارض الآثار في هذا الباب ، وتردد الأمر بالتمام بين أن يقتضي الوجوب أم لا يقتضيه .