المسألة الثانية : في صفات القاضي والمفتي وفيها فصلان :
الأول : في صفات القاضي وله ثمانية أحدها : الحرية ، [ ص: 95 ] والثاني : الذكورة ، والثالث : الاجتهاد ، فلا يجوز تولية جاهل بالأحكام الشرعية وطرقها المحتاج إلى تقليد غيره فيها ، وإنما يحصل أهلية الاجتهاد لمن علم أمورا أحدها كتاب الله تعالى ، ولا يشترط العلم بجميعه ، بل مما يتعلق بالأحكام ، ولا يشترط حفظه عن ظهر القلب ، ومن الأصحاب من ينازع ظاهر كلامه فيه . الثاني : سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا جميعها ، بل ما يتعلق منها بالأحكام ، ويشترط أن يعرف منها العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبين ، والناسخ والمنسوخ ، ومن السنة المتواتر والآحاد ، والمرسل والمتصل ، وحال الرواة جرحا وتعديلا . الثالث : أقاويل علماء الصحابة ومن بعدهم - رضي الله عنه - إجماعا واختلافا . الرابع : القياس فيعرف جليه وخفيه ، وتمييز الصحيح من الفاسد . الخامس : لسان العرب لغة وإعرابا ، لأن الشرع ورد بالعربية وبهذه الجهة يعرف عموم اللفظ وخصوصه وإطلاقه وتقييده ، وإجماله وبيانه . قال أصحابنا : ولا يشترط التبحر في هذه العلوم ، بل يكفي معرفة جمل منها ، وزاد شروط تخفيفات ذكرها في أصول الفقه منها : أنه لا حاجة إلى تتبع الأحاديث على تفرقها وانتشارها ، بل يكفي أن يكون له أصل مصحح وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الأحكام كسنن الغزالي أبي داود ، ويكفي أن يعرف مواقع كل باب ، فيراجعه إذا احتاج إلى العمل بذلك الباب .
قلت : لا يصح التمثيل بسنن أبي داود فإنه لم يستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمه ، وذلك ظاهر ، بل معرفته ضرورية لمن له أدنى اطلاع . وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود . وأما ما في كتابي الترمذي وغيرهما من الكتب المعتمدة فكثرته وشهرته غنية عن التصريح بها . - والله أعلم - . والنسائي
ومنها : أنه لا يشترط ضبط جميع مواضع الإجماع والاختلاف ، [ ص: 96 ] بل يكفي أن يعرف في المسألة التي يفتي فيها أن قوله لا يخالف الإجماع ، بأن يعلم أنه وافق بعض المتقدمين ، أو يغلب على ظنه أن المسألة لم يتكلم فيها الأولون بل تولدت في عصره ، وعلى قياس معرفة الناسخ والمنسوخ . ومنها : أن كل حديث أجمع السلف على قبوله أو تواترت عدالة رواته فلا حاجة إلى البحث عن عدالة رواته ، وما عدا ذلك ينبغي أن يكتفي في عدالة رواته بتعديل إمام مشهور عرفت صحة مذهبه في الجرح والتعديل .
قلت : هذه المسألة مما أطبق جمهور الأصحاب عليه ، وشذ من شرط في التعديل اثنين ، وقوله : تواترت عدالة رواته يعني مع ضبطهم . ولو قال : أهلية رواته كان أولى ليشمل العدالة والضبط . وقوله : أجمع السلف على قبوله يعني على العمل به ، ولا يكفي عملهم على وفقه ، فقد يعملون على وفقه بغيره . - والله أعلم - .
ومنها : أن اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الشرع ، ويجوز أن يكون للعالم منصب الاجتهاد في باب دون باب ، وعد الأصحاب من شروط الاجتهاد معرفة أصول الاعتقاد . قال : وعندي أنه يكفي اعتقاد جازم ، ولا يشترط معرفتها على طرق المتكلمين وبأدلتهم التي يحررونها . الغزالي
الشرط الرابع : البصر ، فلا يصح تولية أعمى وفي " جمع الجوامع " للروياني وجه أنه يجوز ، والصحيح الأول وبه قطع الجمهور ، لأنه لا يعرف الخصوم والشهود .
الخامس : التكليف ، فلا يصح تولية الصبي .
السادس : العدالة فلا يصح تولية فاسق ولا كافر ولو على الكفار ، قال الماوردي : وما جرت به عادة الولادة من نصب حاكم بين أهل [ ص: 97 ] الذمة ، فهو تقليد رئاسة وزعامة لا تقليد حكم وقضاء ، ولا يلزمهم حكمه بإلزامه بل بالتزامهم .
السابع : أن يكون ناطقا سميعا ، فلا يجوز تقليد أخرس لا تعقل إشارته ، وكذا إن عقلت على الصحيح ، ولا أصم لا يسمع أصلا ، فإن كان يسمع إذا صيح به ، جاز تقليده .
الثامن : الكفاية ، فلا يصح قضاء مغفل اختل رأيه ونظره بكبر أو مرض ونحوهما .
ولا يشترط أن يحسن الكتابة على الأصح . ويستحب أن يكون وافر العقل حليما متثبتا ذا فطنة وتيقظ ، كامل الحواس والأعضاء ، عالما بلغة الذين يقضي بينهم ، بريئا من الشحناء والطمع ، صدوق اللهجة ، ذا رأي ووفاء ، وسكينة ووقار ، وأن لا يكون جبارا يهابه الخصوم ، فلا يتمكنون من استيفاء الحجة ، ولا ضعيفا يستخفون به ، ويطمعون فيه ، وأن يكون قرشيا . ورعاية العلم والتقى أولى من رعاية النسب .
فرع
إن ولاه ، وإلا فيبحث عن حاله ، فلو ولى من لم تجتمع فيه الشروط مع العلم بحاله ، أثم المولي والمتولي ولم ينفذ قضاؤه وإن أصاب ، هذا هو الأصل في الباب . عرف الإمام أهليته
قال في " الوسيط " : لكن اجتماع هذه الشروط متعذر في عصرنا لخلو العصر عن المجتهد المستقل ، فالوجه تنفيذ قضاء كل من ولاه سلطان ذو شوكة وإن كان جاهلا أو فاسقا لئلا تتعطل مصالح الناس ، ويؤيده أنا ننفذ قضاء قاضي البغاة لمثل هذه الضرورة ، وهذا حسن ، لكن في بعض الشروح أن قاضي البغاة إذا كان منهم ، وبغيهم لا يوجب فسقا كبغي أصحاب [ ص: 98 ] معاوية - رضي الله عنه - جاز قضاؤه ، وإن أوجب الفسق ، كبغي أهل النهروان ، لم يجز .
قلت : هذا المنقول عن بعض الشروح مشهور ، قد ذكره صاحب " المهذب " وغيره ، ففي " المهذب " أن قاضي البغاة إن كان ممن يستبيح دم أهل العدل ومالهم ، لم ينفذ حكمه ؛ لأن شرطه العدالة والاجتهاد ، وهذا ليس بعدل ولا مجتهد ، وقد جزم الرافعي في " المحرر " بما ذكره ، فقال : إن الغزالي ، نفذ قضاؤه للضرورة . والله أعلم . تعذر اجتماع هذه الشروط ، فولى سلطان ذو شوكة فاسقا ، أو مقلدا
وذكر أن القاضي العادل إذا استقضاه أمير باغ ، أجابه إليه ، ونفذ قضاؤه ، فقد سئلت عائشة - رضي الله عنها - عن ذلك لمن استقضاه زياد ، فقالت : إن لم يقض لهم خياركم قضى شراركم .
فرع
لا يصح تقليده القضاء . قال من لا تقبل شهادته من أهل البدع الماوردي : وكذا لا يجوز تقليد من لا يقول بالإجماع ، أو لا يقول بأخبار الآحاد ، وكذا حكم نفاة القياس الذين لا يقولون بالاجتهاد أصلا ، بل يتبعون النصوص ، فإن لم يجدوا أخذوا بقول سلفهم ، كالشيعة ، فإن كانوا مجتهدين في فحوى الكلام ، ويبنون الأحكام على عموم النصوص وإشاراتها ، جاز تقليدهم على الأصح .