فصل : وإن كان فعلى ضربين : لهما عند التحالف بينة
أحدهما : أن تحضر البينة قبل التحالف ، فتسمع ويمنع حضورها من التحالف ، لأن البينة أولى من اليمين .
والضرب الثاني : أن تحضر البينة بعد التحالف ، فيكون سماعها محمولا على ما أوجبه التحالف من فسخ العقد .
فإن قيل : إنه قد انفسخ به العقد ظاهرا وباطنا لم تسمع البينة .
[ ص: 319 ] وإن قيل إنه قد انفسخ به العقد في الظاهر دون الباطن سمعت ، لأن تصادقهما أقوى من سماع البينة منهما ، وتصادقهما غير معمول به إذا قيل بفسخ العقد في الظاهر والباطن ، ومعمول به إذا قيل بفسخ العقد في الظاهر ، دون الباطن ، كذلك البينة ، فإذا سمعت البينة على ما ذكرنا لم يخل أن تكون لأحدهما أو لهما :
فإن كانت لأحدهما سمعت ، وحكم بها لمقيمها سواء شهدت للمكري ، أو للمكتري .
فإن أقام كل واحد منهما بينة شهدت له بما ادعى لم يخل حالهما من ثلاثة أضرب :
أحدها : أن تكون إحدى البينتين أسبق تاريخا من الأخرى ، فإن شهدت إحداهما بأنهما تعاقدا مع طلوع الشمس ، وشهدت الأخرى أنهما تعاقدا مع زوالها من ذلك اليوم ، فالعقد هو السابق منهما ، لأن الثاني بعد صحة الأول باطل .
والضرب الثاني : أن تشهد البينتان بالعقد في وقت واحد ، فقد اختلف قول الشافعي في على ثلاثة أقاويل : تعارض البينتين في الأموال
أحدها : إسقاط البينتين ، وبه قال مالك لأمرين :
أحدهما : لتكاذبهما في الشهادة ، فسقطت بالتكاذب .
والثاني : أن البينة ما بان بها الحكم ، فإذا لم يكن بها بيان ردت ، لأنه لا بيان فيها لأحدهما بعينه .
والقول الثاني : أنه يقرع بين البينتين ، ويحكم بمن قرع منهما ، وهو محكي عن علي ، وابن الزبير رضي الله عنهما لأمرين :
أحدهما : ما رواه سعيد بن المسيب ، أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وأقام كل واحد منهما شهودا ، فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما " وقال اللهم أنت تقضي بينهما " .
والثاني : أن اشتباه الحقوق المتساوية ، يوجب تمييزها بالقرعة ، كدخولها في القسمة في السفر بإحدى نسائه ، وفي عتق عبيده ، إذا استوعبوا التركة .
والقول الثالث : أن يقسم الملك بينهما بالبينتين ، وهو محكي عن ابن عباس ، وبه قال سفيان الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه لأمرين :
[ ص: 320 ] أحدهما : ما رواه سعيد بن أبي بردة ، عن أبيه ، عن جده أبي موسى الأشعري ، . أن رجلين تداعيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا ، أو دابة ، وشهد لكل واحد منهما شاهدان ، فجعله بينهما نصفين
والثاني : أن البينة أقوى من اليد ، وقد ثبت أنهما إذا تساويا في اليد جعل بينهما ، فوجب إذا تساويا في البينة ، أن يكون أولى ، بأن يجعل بينهما ، فهذه ثلاثة أقاويل اتفق أصحابنا على تخريجها في تعارض البينتين في الأموال ، واختلفوا في تخريج قول رابع وهو : وقفهما على البيان ، فخرجه البغداديون قولا رابعا للشافعي ، وامتنع البصريون من تخريجه قولا رابعا ، لأن وقف البينة على البيان يوجب الحكم بالبيان دون البينة ، وإنما يوقف المال على البيان دون البينة ، وهذا أشبه ، فإذا تقررت هذه الأقاويل في تعارض البينتين لم يخرج في تعارضهما في عقد الإجارة إلا قولين :
أحدهما : إسقاطهما ويتحالف المتداعيان .
والقول الثاني : الإقراع بين البينتين ، والحكم بشهادة من قرع منهما .
وفي قولان ، من اختلاف قولي إحلاف من قرعت بينته الشافعي في القرعة هل دخلت ترجيحا للدعوى أو للبينة ؟ فأحد قوليه أنها دخلت ترجيحا للبينة ، فعلى هذا لا يمين على من قرعت بينته ، لأن الحكم بالبينة ولا يمين مع البينة .
والقول الثاني : أنها دخلت ترجيحا للدعوى ، فيجب إحلاف المدعي .
فعلى هذا يكون فيما ثبت به الحكم وجهان :
أحدهما : باليمين مع البينة ، وتكون يمينه بالله أنه ما شهدته بينته حق ، وقد نص عليه الشافعي .
والوجه الثاني : أن الحكم يثبت بيمينه ترجيحا بالبينة ، وتكون يمينه بالله ، لقد اكتريت منه الدار بكذا .
ولا يجيء فيه تخريج القول الثالث ، أنه يقسم بينهما بالبينتين ، لأن قسمة العقد لا تصح ، ولا يجيء فيه تخريج القول الرابع إن صح تخريجه ، أنه يكون موقوفا على البيان لتعذره في الدعوى والبينة ، فوجب أن يفصل الحكم بينهما بالتحالف .
والضرب الثالث : أن تكون البينتان مطلقتين ليس فيهما تاريخ يدل على اجتماعهما أو تقدم إحداهما ، فقد حكي عن أبي العباس بن سريج ، أنه يحكم بأزيد البينتين ، فإن كان الاختلاف في الأجرة حكم بأكثرهما قدرا .
وإن كان في الكراء حكم بأكثرهما قدرا .
[ ص: 321 ] كما ، حكم بالألفين ، والذي نص عليه لو شهدت بينة بألف ، وبينة بألفين الشافعي : أن البينتين متعارضتان تتساوى فيها الزيادة والنقصان ، لأن عقد الكراء بعشرة يمنع من عقده بعشرين ، وكراء البيت بعشرة يمنع من كراء الدار بعشرين ، فيكون تعارضهما محمولا على القولين ، يسقطان من أحدهما ويقرع بينهما في الثاني .