مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : قال " ، أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقضي بالظاهر ويتولى الله عز وجل السرائر فقال : ولا يحيل حكم الحاكم الأمور عما هي عليه فلو [ ص: 11 ] من قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ، ففرق الحاكم بينهما ، كانت له حلالا غير أنا نكره أن يطأها فيحدا ، ويلزم من زعم أن فرقته فرقة تحرم بها على الزوج ويحل لأحد الشاهدين أن يتزوجها فيما بينه وبين الله عز وجل ، أن يقول : لو شهدا بزور أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ، فأباح له الحاكم دمه ، أن يريق دمه ويحل له فيما بينه وبين الله عز وجل " . شهدا له بزور أن هذا قتل ابنه عمدا
قال الماوردي : وهذا كما قال . إذا ، فإن كانا صادقين كان حكمه صحيحا في الظاهر ، والباطن ، وإن كانا كاذبين كان حكمه نافذا في الظاهر ، وباطلا في الباطن ، ولم يحل للمحكوم له فيما بينه وبين الله تعالى ، أن يستبيح ما حكم به ، سواء كان مالا أو فرجا ، أو قتلا ، وهكذا لو طولب بمال يقبل فيه قوله مع يمينه كالودائع ، والشرك ، والمضاربات ، فأحلفه الحاكم عند إنكاره وإن كان صادقا برئ في الظاهر والباطن ، وإن كان كاذبا برئ في الظاهر دون الباطن ، ولم يستبح ما حلف عليه ، ولا يحيل حكم الحاكم الأمور عما هي عليه في الباطن ، وبه قال حكم الحاكم لطالب حق بشهادة شاهدين مالك ، وأبو يوسف ، ومحمد .
وقال أبو حنيفة : ينفذ حكمه في الظاهر والباطن فيما تعلق بالفروج دون القتل والأموال ، حتى قال في ، حل له إصابتها ، وورثها إن ماتت وإن علم كذب الشاهدين . شاهدين زور شهدا لرجل بنكاح امرأة
وقال : لو ، حل لها أن تتزوج غيره ، وحل لكل واحد من شاهدي الزور أن يتزوجها إذا حكم الحاكم بشهادتهما ، وقال في شهدا بزور على رجل بطلاق زوجته ، ثبت نسبها ظاهرا وباطنا ، وصار محرما لها ، وورثها إن ماتت ، استدلالا بما روي أن رجلا ادعى نكاح امرأة عند شاهدي زور شهدا لرجل أن هذه المرأة بنته علي بن أبي طالب ، عليه السلام ، فجحدته ، فشهد له بنكاحها شاهدان ، فحكم بينهما بالزوجية ، فقالت : يا أمير المؤمنين ، والله ما تزوجني . فاعقد بيننا عقدا أحل به له فقال : شاهداك زوجاك . أي : جعلاك زوجته .
قالوا : ولأن ما لزم به الحكم أنفذ في الظاهر والباطن كشاهدي الصدق .
قالوا : ولأنه حكم ينفذ مع ظهور الصدق ، فجاز أن ينفذ مع ظهور الكذب كاللعان .
قالوا : ولأن نفذ ظاهرا وباطنا ، كتوريث الجد جميع المال مع الإخوة ، وكانقطاع الفرقة فيمن قال لزوجته أنت علي حرام ، وجاز أن يستبيح المحكوم له بذلك ، وإن اعتقد خلافه كذلك في حكم الحاكم إذا نفذ باجتهاده فيما اختلف فيه ، لنفوذ الحكم بهما في الحالين . المحكوم له بشهادة الزور
[ ص: 12 ] ودليلنا الكتاب ، والسنة ، والاعتبار .
فأما الكتاب فقوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس [ البقرة : 188 ] . الآية .
وفي تفسير هذه الآية دلائل كالنصوص فقوله : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل فيه تأويلان :
أحدهما : بالظلم .
والثاني : بالحرام .
ولا ينفك الحكم بشهادة الزور منها .
وفي وتدلوا بها إلى الحكام تأويلان : قوله تعالى :
أحدهما : وتترافعوا فيها إلى الحكام .
والثاني : وتحتجوا بها عند الحكام .
وهذه صفة المشهود له بالزور .
لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون أي : أموال فريق من الناس . وفي قوله :
بالإثم فيه تأويلان :
أحدهما : بشهادة الزور ، وهذا نص .
والثاني : بالجحود ، وهو في معنى النص .
وأما السنة فما رواه الشافعي عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عن زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أم سلمة " وهذا نص ، لأنه أخبر أنه إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على غيره بما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ، فلا يأخذه منه فإنما أقطع له قطعة من النار . يقضي بالظاهر ، وأنه على حقيقته في الباطن لا يحل حراما ، ولا يحرم حلالا
وروى أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : ذا النسعة . قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع القاتل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدفعه إلى ولي المقتول ، فقال [ ص: 13 ] القاتل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت قتله قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للولي : " أما إنه إن كان صادقا ، فقتلته دخلت النار " ، فخلى سبيله ، فخرج يجر نسعته ، فسمي
فموضع الدليل منه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد إذنه في قتله أخبر أنه كان صادقا ، فأحرم قتله ، فدل على نفوذ الحكم في الظاهر دون الباطن وأما الاعتبار فهو أن ، وحكم الأموال أخف من حكم الفروج ، فلما لم ينفذ الحكم في الباطن بشهادة العبد والكافر ، كان أولى أن لا تنفذ في الفروج بشهادة الزور ، ولما لم ينفذ بشهادة الزور في الأموال ، كان أولى أن لا تنفذ في الفروج ، ويتحرر من اعتلال هذا الاستدلال قياسان : شهادة الزور أفسد من شهادة العبد والكافر
أحدهما : أن كل شهادة لا ينفذ بها حكم الباطن في الأموال لم ينفذ في الفروج قياسا على شهادة العبد والكافر .
والقياس الثاني : أن كل حكم لا ينفذ في الباطن بشهادة العبد والكافر لم ينفذ بشهادة الزور ، بخلاف الحكم في الأموال .
فإن قالوا : الأموال لا مدخل للحكام في نقلها ، ولهم مدخل في نقل الفروج بتزويج الأيامى ، ووقوع الفرقة بالعنة والفسخ بالعيوب ، فلذلك وقع الفرق بين الأموال والفروج .
، والعبد والكافر ليس من أهل الشهادة من أهل الشهادة ، فلذلك وقع الفرق بينهما . وشاهد الزور
قيل : الجواب عن فرقه بين الأموال والفروج من وجهين :
أحدهما : أن له في نقل الأموال ولاية كالفروج : لأن له أن يبيح على الصغير ماله لحاجته وعلى المفلس ماله لحاجة غرمائه .
والثاني : ليس له ولاية في نقل الفروج ، كما ليس له ولاية في نقل الأموال ، لأنه لا يزوج ، ولا يفسخ إلا باختيار ، ولو ملك الولاية لنقلها بالاختيار .
وعن فرقه بين شهادة الزور وبين شهادة العبد والكافر جوابان :
أحدهما : أنه لما استويا في إبطال الحكم عند العلم بهما قبل الحكم ، وجب أن يستويا فيه عند العلم بهما بعد الحكم .
[ ص: 14 ] والثاني : أنه سمع شهادة الزور على أنها ليست بزور ، كما يسمع شهادة العبد على أنه ليس بعبد ، فلما كان خطؤه في العبد مبطلا لحكمه في الحالين وجب أن يكون خطؤه في شهادة الزور مبطلا لحكمه في الحالين ، ولأنه يصير بشهادة الزور فاسقا وحكمه بشهادة الفاسق مردود في الحالين نصا ، ورد شهادة العبد في الحالين اجتهادا ، ثم من الدليل على ذلك أن الحكم يبطل بفساد الشهادة كما يبطل إذا خالف باجتهاده نصا ، فلما كان فساده بمخالفة النص يبطل ظاهرا وباطنا وجب أن يكون فساده بشهادة موجبا لإبطاله ظاهرا وباطنا .
فإن قيل : ما خالف النص لا يكون حكما .
قيل : وكذلك ما أمضاه بشهادة الزور لا يكون حكما ، ولأنه حكم بشهادة زور ، فوجب أن يكون باطلا كالحكم بالقصاص .
فأما الجواب عن حديث علي ، عليه السلام ، من قوله : شاهداك زوجاك ، فمن ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مجهول عند أصحاب الحديث ، فكان أسوأ حالا مما ضعف إسناده .
والثاني : أنه لم يعلم كذب الشهود ، فلم يبطل شهادتهم ، والخلاف إذا علمها .
والثالث : أنهم لا يحملونه على قوله : شاهداك زوجاك ، لأنهم يجعلون الحاكم مزوجا لها دون الشاهد ، وقد كان شريح يقضي في أيام علي ، فإذا حكم لرجل بشاهدين ، قال له : يا هذا إن حكمي لا يبيح لك ما هو حرام عليك ، ولو خالفه علي فيه لأنكره عليه .
وأما الجواب عن قياسهم على شهادة الصدق ، فهو استحالة الجمع بينهما بالقبول : لقبول الصدق ورد الكذب . ونفوذ الحكم في الظاهر ، لاستوائهما في الجهل بالكذب ، ولو علم لما نفذ في الظاهر كما لم ينفذ في الباطن .
وأما الجواب عن قياسهم على اللعان ، فمن وجهين :
أحدهما : أن الحكم لم ينفذ بالكذب ، وإنما نفذ باللعان .
والثاني : أن اللعان استئناف فرقة ، والحكم بشهادة الزور إنما هو تنفيذ لفرقة سابقة ، فإذا لم تكن لم يصح تنفيذ معدوم .
وأما الجواب عما استدلوا به من حكم الحاكم من مسائل الاجتهاد ، فهو أن ليس في الباطن ما يخالف الظاهر ، فلذلك نفذ حكمه في الظاهر والباطن ، وخالف شهادة الزور التي تخالف الظاهر فيها الباطن ، فلذلك نفذ حكمه في الظاهر دون الباطن ، وسنشرح من فروع هذا الأصل ما يستقر به حكمه .