مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : ولا عين أعور على عين ليس بأعور ولا يجوز أن يقال فيها دية تامة وإنما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في العينين الدية وعين الأعور كيد الأقطع .
قال الماوردي : وهذا كما قال ، إذا ففيها دية عين واحدة وهي نصف الدية كعين من ليس بأعور وهو قول جمهور الفقهاء . فقئت عين الأعور
وقال مالك : فيها جميع الدية وهو قول الزهري والليث بن سعد وأحمد وإسحاق ، احتجاجا بأنه قول الأئمة وإجماع أهل المدينة .
[ ص: 286 ] روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أنهم أوجبوا في عين الأعور الدية وأن علي بن أبي طالب - عليه السلام - خيره إذا كان للجاني عينان أن يقتص من إحداهما ويأخذ نصف الدية ، وبين أن يعدل عن القصاص ويأخذ جميع الدية ، وليس يعرف لقولهم مع انتشاره مخالف فكان إجماعا .
ولأن الأعور يدرك بعينه جميع ما يدركه ذو العينين ، فإذا قلع عينه فقد أذهب بصرا كاملا فوجب أن يلزم فيه دية كاملة ، وخالف يد الأقطع ، لأنه لا يعمل بها ما كان يعمل بهما ، ولذلك جاز في الكفارة عتق العوراء ولم يجز عتق القطعاء ، ولأن ضوء العينين يحول فينتقل من إحدى العينين إلى الأخرى ، ألا ترى أن من أراد تحديد نظره في رمي أو ثقب أغمض إحدى عينيه ليقوي ضوء الأخرى فيدرك بها نظرا لما يدرك مع فتح أختها ، وإذا كان كذلك علم أن ضوء الذاهبة انتقل إلى الباقية فلزم فيها جميع الدية ، ودليلنا رواية عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ولم يفرق بين الأعور وغيره فكان على عمومه ، وقول الصحابة يدفع بعموم السنة ، ولأنها عين واحدة فلم تكمل فيها دية العينين كعين ذي العينين . في العين خمسون من الإبل
ولأن كل واحد من عضوين إذا وجب فيهما نصف الدية مع بقاء نظيره وجب فيه ذلك النصف مع عدم نظيره كيد الأقطع .
ولأنه لو قامت عين الأعور مقام عينين لوجب أن يقتص بها من عيني الجاني لقيامها مقام عينيه ، ولوجب إذا قلع عين الأعور إحدى عينين أن لا يقتص منه كما لا يقتص من عينين بعين ، وفي الإجماع على خلاف هذا دليل على فساد ما قالوه .
ولأنه لو وجب في عين الأعور كمال الدية لوجب على من قلع عيني رجل واحدة بعد الأخرى أن تلزمه دية ونصف ، لأنه قد جعله بقلع الأولى أعور فلزمه بها نصف الدية وبقلع الأخرى بعد العور جميع الدية ولم يقل به أحد ، فدل على فساد ما اعتبروه .
فأما الجواب عن احتجاجهم بالإجماع فمن وجهين :
أحدهما : أنه قد خالف فيه عائشة وزيد بن ثابت وعبد الله بن مغفل فلم يكن إجماعا .
والثاني : أنه قد روي عن علي - عليه السلام - أنه رجع عما قالوا وخالفهم ، وأما قولهم أنه يدرك بالباقية ما كان يدركه بهما فعنه جوابان :
[ ص: 287 ] إحداهما : دفع هذه الدعوى ، لأن الأعور لا يرى البعيد كرؤية ذي العينين وقد يكون بينهما ضعف المسافة فلم يسلم ما ادعوه .
والثاني : أنه لو أوجب هذا كمال الدية في العين الباقية لوجب مثله فيمن بقي سمعه من إحدى أذنيه أن يلزم في ذهابه من الأذن الأخرى كمال الدية كما قاله يزيد بن أبي زياد ، لأنه يسمع بها ما كان يسمع بهما ، ولم يقل بذلك في سمع الأذنين ، فكذلك في ضوء العينين .
وأما قولهم : إن ضوء العين ينتقل من الذاهبة إلى الباقية ففاسد ، لأنه لو كان كذلك لكان من قلع واحدة من عينين أن لا يلزمه ديتها ، لأن ضوءها قد انتقل إلى الأخرى فصار كالجاني على عين لا ضوء لها ، فلم يلزمه أكثر من حكومتها ، وهذا مدفوع بالإجماع فدل على أن الضوء غير منتقل ، وإنما يغمض الرامي إحدى عينيه ، وكذلك الناظر في ثقب حتى لا ينتشر ضوء العينين ويقتصر على إحداهما ليستقيم تراجع السهم والثقب ولا يختلف السمت باختلاف النظرين .
وأما فرقهم بين العوراء والقطعاء لفرق ما بينهما في الكفارة فقد كان الأوزاعي يسوي بينهما في كمال الدية ويقول : إن من قطعت يده في الجهاد كان في الباقية إذا قطعت جميع الدية ونحن نسوي بينهما في أن كل واحدة منهما نصف الدية وأنت تخالف بينهما لافتراقهما في الكفارة ، وليس ذلك بصحيح ، لأن من قطعت خنصر أصابعه يجزئ في الكفارة ، ولا يدل على أن من قطع الكف بعد ذهاب خنصرها يلزمه جميع ديتها لإجزائها في الكفارة ، كذلك عين الأعور .