[ ص: 210 ] كتاب الديات
باب أسنان الإبل المغلظة والعمد وكيف يشبه العمد الخطأ
مسألة : قال الشافعي رحمه الله : أخبرنا ابن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال ألا إن في قتل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها الشافعي ، رحمه الله : فهذا خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب .
قال الماوردي : والأصل في وجوب الدية الكتاب والسنة .
فأما الكتاب فقوله تعالى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله [ النساء : 92 ] فنص على دية أجمل بيانها حتى أخذ من السنة ، الذي قدمه الشافعي بإسناده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : . ألا إن في قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها
فإذا ثبت وجوب الدية بالكتاب والسنة فالقتل ينقسم ثلاثة أقسام :
قسم يكون عمدا محضا .
وقسم يكون خطأ محضا .
وقسم يكون عمد الخطأ يأخذ من العمد شبها ومن الخطأ شبها .
فأما العمد المحض : فهو أن يكون عامدا في فعله بما يقتل مثله قاصدا لقتله ، وذلك أن يضربه بسيف أو ما يقتل مثله من المثقل عامدا في الفعل قاصدا للنفس .
وأما الخطأ المحض : فهو أن لا يعمد الفعل ولا يقصد النفس ، وذلك بأن يرمي هدفا أو صيدا أو يلقي حجرا فيعترضه إنسان فتصيبه الرمية فيموت منها فيكون مخطئا في الفعل والقصد .
وأما عمد الخطأ : فهو أن يكون عامدا في الفعل غير قاصد للقتل وذلك بأن يعمد ضربه بما لا يقتل في الأغلب وإن جاز أن يقتل كالسوط والعصا وما توسط من المثقل الذي يجوز أن يقتل ويجوز أن لا يقتل ، فيأخذ شبها من العمد لعمده للفعل [ ص: 211 ] ويأخذ شبها من الخطأ لعدم قصده للقتل فسمي عمد الخطأ لوجود صفة العمد في الفعل وصفة الخطأ في عدم القصد ، فصار العمد ما كان عامدا في فعله وقصده ، والخطأ ما كان مخطئا في فعله وقصده ، وعمد الخطأ ما كان عامدا في فعله خاطئا في قصده ، ووافق أبو حنيفة على عمد الخطأ ، وخالف فيه مالك : وقال : لا أعرف عمد الخطأ وليس القتل إلا عمدا أو خطأ ، وليس بينهما ثالث ، كما قال : لا أعرف الخنثى وما هو إلا ذكر أو أنثى استدلالا باستحالة اجتماع الضدين في حالة ، لأن الخطأ ضد العمد فاستحال أن يجتمعا ، كما استحال أن يكون قائما قاعدا ، ومتحركا ساكنا ، ونائما مستيقظا ، قال : ولذلك ذكر الله تعالى في كتابه حكم العمد المحض وحكم الخطأ المحض ولم يذكر حكم عمد الخطأ لاستحالته .
ودليلنا السنة المعمول بها ، ثم الإجماع المنعقد بعدها ثم الاعتبار الموجب لمقتضاها .
فأما السنة فما قدمه المزني ورواه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فدل على ألا إن في قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة ، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها مالك من ثلاثة أوجه :
أحدها : وصفه بالعمد الخطأ ، ومالك ينكرها .
والثاني : إيجاب الدية فيه ، ومالك يوجب القود .
والثالث : أنه قدر الدية بمائة من الإبل ، ومالك يوجب ما تراضيا به كالأثمان .
فإن قيل : فهذا الحديث لا يصح الاحتجاج به من وجهين :
أحدهما : أن علي بن زيد بن جدعان ضعيف لا يؤخذ بحديثه .
والثاني : أن القاسم بن ربيعة لم يلق ابن عمر فكان الحديث منقطعا .
قيل : أما الوجه الأول في ضعف علي بن زيد فغير مسلم بل هو ثقة قد نقل عنه سفيان وغيره .
وأما الوجه الثاني في انقطاعه فليس يمتنع أن يكون القاسم بن ربيعة قد لقي ابن عمر ، وعلى أنه قد روي من طريق أبي داود عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس .
[ ص: 212 ] فصار من هذا الوجه متصلا ، ويحتمل أن يكون قد رواه عن ابن عمر تارة وعن عقبة بن أوس أخرى .
وأما الإجماع فهو مروي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهم أنهم اتفقوا على عمد الخطأ وإن اختلفوا في بعض أحكامه ، ولم يعرف لهم في الصحابة مخالف فصار إجماعا ، وأما الاعتبار : فهو أن العمد المحض لما جمع صفتين من اعتماد الفعل وقصد النفس وسلب الخطأ المحض الصفتين وجب أن تكون ما وجد فيه إحدى الصفتين وهو اعتماد الفعل وسلب الأخرى وهو قصد النفس أن يجري عليه حكم العمد من وجه وهو تغليظ الدية لاعتماد الفعل وحكم الخطأ من وجه وهو سقوط القود ، لأنه خاطئ في النفس فصار من هذا الوجه عمد الخطأ ولا يكون ذلك جمعا بين ضدين ممتنعين ، لأنه ليس يجمع بينهما في حكم واحد فيمتنعان .