الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
عن الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته رضي الله عنه قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950378حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=treesubj&link=27152دع ما يريبك إلى ما لا يريبك رواه nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي ، وقال : حسن صحيح .
هذا الحديث خرجه nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي ، nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ، nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان في " صحيحه " والحاكم من حديث بريد بن أبي مريم ، عن أبي الحوراء السعدي عن الحسن بن علي ، وصححه الترمذي ، وأبو الحوراء السعدي ، قال الأكثرون : اسمه ربيعة بن شيبان ، ووثقه nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان ، وتوقف أحمد في أن أبا الحوراء اسمه ربيعة بن شيبان ، ومال إلى التفرقة بينهما ، وقال الجوزجاني : أبو الحوراء مجهول لا يعرف .
وهذا الحديث قطعة من حديث طويل فيه ذكر قنوت الوتر ، وعند الترمذي [ ص: 279 ] وغيره زيادة في هذا الحديث وهي " فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة " ولفظ nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان : " فإن الخير طمأنينة ، وإن الشر ريبة " .
وقد خرجه nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد بإسناد فيه جهالة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950379nindex.php?page=treesubj&link=27152_29501دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وخرجه من وجه آخر أجود منه موقوفا على أنس .
وخرجه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني من رواية مالك ، عن نافع ، عن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر مرفوعا ، قال nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني : وإنما يروى هذا من قول nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، وعن عمر ، ويروى عن مالك من قوله . انتهى .
ويروى بإسناد ضعيف ، عن عثمان بن عطاء الخراساني - وهو ضعيف - ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " قال : وكيف لي بالعلم بذلك ؟ قال : " إذا أردت أمرا ، فضع يدك على صدرك ، فإن القلب يضطرب للحرام ، ويسكن للحلال ، وإن nindex.php?page=treesubj&link=18603_18604المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة " . وقد روي عن nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني مرسلا .
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني نحوه بإسناد ضعيف عن nindex.php?page=showalam&ids=105واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه : nindex.php?page=hadith&LINKID=950381قيل له : فمن الورع ؟ قال : " الذي يقف عند الشبهة " [ ص: 280 ] وقد روي هذا الكلام موقوفا على جماعة من الصحابة : منهم عمر ، nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر ، وأبو الدرداء ، وعن nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، قال : ما تريد إلى ما يريبك وحولك أربعة آلاف لا تريبك ؟ ! وقال عمر : دعوا الربا والريبة ، يعني : ما ارتبتم فيه ، وإن لم تتحققوا أنه ربا .
ومعنى هذا الحديث يرجع إلى nindex.php?page=treesubj&link=27152_18603الوقوف عند الشبهات واتقائها ، فإن الحلال المحض لا يحصل لمؤمن في قلبه منه ريب - والريب : بمعنى القلق والاضطراب - بل تسكن إليه النفس ، ويطمئن به القلب ، وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب القلق والاضطراب الموجب للشك .
وقال أبو عبد الرحمن العمري الزاهد : إذا كان العبد ورعا ، ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه .
وقال الفضيل : يزعم الناس أن الورع شديد ، وما ورد علي أمران إلا أخذت بأشدهما ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك .
وقال حسان بن أبي سنان : ما شيء أهون من الورع ، إذا رابك شيء ، فدعه . وهذا إنما يسهل على مثل حسان رحمه الله .
قال nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك : كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز : إن قصب السكر أصابته آفة ، فاشتر السكر فيما قبلك ، فاشتراه من رجل ، فلم يأت عليه إلا قليل فإذا فيما اشتراه ربح ثلاثين ألفا ، قال : فأتى صاحب السكر ، فقال : يا هذا إن غلامي كان قد كتب إلي ، فلم أعلمك ، فأقلني فيما اشتريت منك ، فقال له الآخر : قد أعلمتني الآن ، وقد طيبته لك ، قال : فرجع فلم يحتمل قلبه ، فأتاه ، فقال : يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه ، فأحب أن تسترد هذا البيع ، قال : فما زال به حتى رده عليه .
[ ص: 281 ] وكان nindex.php?page=showalam&ids=17419يونس بن عبيد إذا طلب المتاع ونفق ، وأرسل يشتريه يقول لمن يشتري له : أعلم من تشتري منه أن المتاع قد طلب .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=17240هشام بن حسان : ترك nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين أربعين ألفا فيما لا ترون به اليوم بأسا .
وكان nindex.php?page=showalam&ids=15694الحجاج بن دينار قد بعث طعاما إلى البصرة مع رجل وأمره أن يبيعه يوم يدخل بسعر يومه ، فأتاه كتابه : إني قدمت البصرة ، فوجدت الطعام مبغضا فحبسته ، فزاد الطعام ، فازددت فيه كذا وكذا ، فكتب إليه الحجاج : إنك قد خنتنا ، وعملت بخلاف ما أمرناك به ، فإذا أتاك كتابي ، فتصدق بجميع ثمن الطعام على فقراء البصرة ، فليتني أسلم إذا فعلت ذلك .
وتنزه nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع عن خمسائة ألف من ميراث أبيه ، فلم يأخذه ، وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين ، وكان يزيد يعمل الخوص ، ويتقوت منه إلى أن مات رحمه الله .
وكان nindex.php?page=showalam&ids=83المسور بن مخرمة قد احتكر طعاما كثيرا ، فرأى سحابا في الخريف فكرهه ، فقال : ألا أراني قد كرهت ما ينفع المسلمين ؟ فآلى أن لا يربح فيه شيئا ، فأخبر بذلك nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب فقال له عمر : جزاك الله خيرا .
وفي هذا أن المحتكر ينبغي له التنزه عن ربح ما احتكره احتكارا منهيا عنه ، وقد نص nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد رحمه الله على التنزه عن ربح ما لم يدخل في ضمانه لدخوله في ربح ما لم يضمن ، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أحمد في رواية [ ص: 282 ] عنه فيمن أجر ما استأجره بربح : إنه يتصدق بالربح ، وقال في رواية عنه في ربح مال المضاربة إذا خالف فيه المضارب : إنه يتصدق به ، وقال في رواية عنه فيما إذا اشترى ثمرة قبل صلاحها بشرط القطع ، ثم تركها حتى بدا صلاحها : إنه يتصدق بالزيادة ، وحمله طائفة من أصحابنا على الاستحباب ، لأن nindex.php?page=treesubj&link=23508الصدقة بالشبهات مستحب .
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن أكل الصيد للمحرم ، فقالت : إنما هي أيام قلائل فما رابك ، فدعه يعني ما اشتبه عليك : هل هو حلال أو حرام ، فاتركه ، فإن الناس اختلفوا في إباحة أكل الصيد للمحرم إذا لم يصد هو .
وقد يستدل بهذا على أن الخروج من اختلاف العلماء أفضل ، لأنه أبعد عن الشبهة ، ولكن المحققين من العلماء من أصحابنا وغيرهم على أن هذا ليس هو على إطلاقه ، فإن من مسائل الاختلاف ما ثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=treesubj&link=20661رخصة ليس لها معارض ، فاتباع تلك الرخصة أولى من اجتنابها ، وإن لم تكن تلك الرخصة بلغت بعض العلماء ، فامتنع منها لذلك ، وهذا كمن nindex.php?page=treesubj&link=24094تيقن الطهارة ، وشك في الحدث ، فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950382لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ولا سيما إن كان شكه في الصلاة ، فإنه لا يجوز له قطعها لصحة النهي [ ص: 283 ] عنه ، وإن كان بعض العلماء يوجب ذلك .
وإن كان للرخصة معارض ، إما من سنة أخرى ، أو من عمل الأمة بخلافها ، فالأولى ترك العمل بها ، وكذا لو كان قد عمل بها شذوذ من الناس ، واشتهر في الأمة العمل بخلافها في أمصار المسلمين من عهد الصحابة ، فإن الأخذ بما عليه عمل المسلمين هو المتعين ، فإن هذه الأمة قد أجارها الله أن يظهر أهل باطلها على أهل حقها ، فما ظهر العمل به في القرون الثلاثة المفضلة ، فهو الحق ، وما عداه فهو باطل .
وهاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها ، وتشابهت أعماله في التقوى والورع ، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه ، فإنه لا يحتمل له ذلك ، بل ينكر عليه ، كما قال nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق : يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين ، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : nindex.php?page=hadith&LINKID=950383هما ريحانتاي من الدنيا .
وسأل رجل nindex.php?page=showalam&ids=15531بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها ، فقال : إن كان بر أمه في كل شيء ، ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل ، وإن كان يبرها بطلاق زوجته ، ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه ، فيضربها ، فلا يفعل .
وسئل nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلا ، ويشترط الخوصة : يعني التي تربط بها جرزة البقل ، فقال أحمد : أيش هذه المسائل ؟ ! قيل له :
[ ص: 284 ] إنه إبراهيم بن أبي نعيم ، فقال أحمد : إن كان إبراهيم بن أبي نعيم ، فنعم هذا يشبه ذاك .
وإنما أنكر هذه المسائل ممن لا يشبه حاله ، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا ، وقد كان nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد نفسه يستعمل في نفسه هذا الورع ، فإنه أمر من يشتري له سمنا ، فجاء به على ورقة فأمر برد الورقة إلى البائع ، وكان nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد لا يستمد من محابر أصحابه ، وإنما يخرج معه محبرته يستمد منها ، واستأذنه رجل أن يكتب من محبرته ، فقال له : اكتب فهذا ورع مظلم ، واستأذنه آخر في ذلك فتبسم ، فقال : لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا ، وهذا قاله على وجه التواضع وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع ، وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام ، بل يتسامح في المكروهات الظاهرة ، ويقدم على الشبهات من غير توقف .
وقوله صلى الله عليه وسلم " فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة " يعني : أن الخير تطمئن به القلوب ، والشر ترتاب به ، ولا تطمئن إليه ، وفي هذا إشارة إلى الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه ، وسيأتي مزيد لهذا الكلام على حديث النواس بن سمعان إن شاء الله تعالى .
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير بإسناده عن قتادة ، عن بشير بن كعب أنه قرأ هذه الآية : [ ص: 285 ] nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=15فامشوا في مناكبها ( الملك : 15 ) ثم قال لجاريته : إن دريت ما مناكبها فأنت حرة لوجه الله ، قالت : مناكبها : جبالها ، فكأنما سفع في وجهه ، ورغب في جاريته ، فسألهم ، فمنهم من أمره ، ومنهم من نهاه ، فسأل nindex.php?page=showalam&ids=4أبا الدرداء ، فقال : الخير طمأنينة والشر ريبة ، فذر ما يريبك إلى ما لا يريبك .
وقوله في الرواية الأخرى : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950385إن nindex.php?page=treesubj&link=19476_19484_19478الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة " يشير إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على قول كل قائل كما قال في حديث وابصة : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950386وإن أفتاك الناس وأفتوك " وإنما يعتمد على قول من يقول الصدق ، وعلامة الصدق أنه تطمئن به القلوب ، وعلامة الكذب أنه تحصل به الريبة ، فلا تسكن القلوب إليه ، بل تنفر منه .
ومن هنا كان العقلاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا كلامه وما يدعو إليه ، عرفوا أنه صادق ، وأنه جاء بالحق ، وإذا سمعوا كلام مسيلمة ، عرفوا أنه كاذب ، وأنه جاء بالباطل ، وقد روي أن nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو بن العاص سمعه قبل إسلامه يدعي أنه أنزل عليه : يا وبر يا وبر ، لك أذنان وصدر ، وإنك لتعلم يا عمرو ، فقال : والله إني لأعلم أنك تكذب .
وقال بعض المتقدمين : صور ما شئت في قلبك ، وتفكر فيه ، ثم قسه إلى ضده ، فإنك إذا ميزت بينهما ، عرفت الحق من الباطل ، والصدق من الكذب ، قال : كأنك تصور محمدا صلى الله عليه وسلم ، ثم تتفكر فيما أتى به من القرآن فتقرأ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس الآية ( البقرة : 164 ) ، ثم تتصور ضد محمد صلى الله عليه وسلم ، فتجده مسيلمة ، فتتفكر فيما جاء به فتقرأ : [ ص: 286 ] ألا يا ربة المخدع 26 قد هيئ لك المضجع يعني قوله لسجاح حين تزوج بها ، قال : فترى هذا - يعني القرآن - رصينا عجيبا ، يلوط بالقلب ، ويحسن في السمع ، وترى ذا - يعني قول مسيلمة - باردا غثا فاحشا ، فتعلم أن محمدا حق أتي بوحي ، وأن مسيلمة كذاب أتي بباطل .