وقسم بعضهم المقابلة إلى أربع :
أحدها كقوله تعالى : أن يأتي بكل واحد من المقدمات مع قرينة من الثواني ، وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا ( النبأ : 10 - 11 ) .
والثانية : كما قال تعالى : أن يأتي بجميع المقدمات مع قرينة الثواني مرتبة من أولها ، ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ( القصص : 73 ) .
[ ص: 507 ] وكذلك : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( البقرة : 217 ) .
الثالث : ويسمى رد العجز على الصدر ، كقوله تعالى : أن يأتي بجميع المقدمات ثم بجميع الثواني مرتبة من آخرها ، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ( آل عمران : 106 - 107 ) .
الرابع : ويسمى اللف ، كقوله تعالى : أن يأتي بجميع المقدمات ثم بجميع الثواني مختلطة غير مرتبة ، وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ( البقرة : 214 ) فنسبة قوله : متى نصر الله ( البقرة : 214 ) إلى قوله : والذين آمنوا . كنسبة قوله : يقول الرسول . إلى ألا إن نصر الله قريب ؛ لأن القولين المتباينين يصدران عن متباينين .
وكما قال تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ( الأنعام : 52 ) فنسبة قوله : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ( الأنعام : 52 ) إلى قوله : فتكون من الظالمين ( الأنعام : 52 ) كنسبة قوله : ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم ( الأنعام : 52 ) إلى قوله : فتطردهم ( الأنعام : 52 ) فجمع المقدمين التاليين بالالتفات .
وجعل بعضهم من أقسام التقابل مقابلة الشيء بمثله وهو ضربان :
مقابل في اللفظ دون المعنى ، كقوله تعالى : ومكروا مكرا ومكرنا مكرا ( النمل : 50 ) .
[ ص: 508 ] ومقابل في المعنى دون اللفظ ، كقوله تعالى : قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي ( سبأ : 50 ) فإنه لو كان التقابل هنا من جهة اللفظ ، لكان التقدير : " وإن اهتديت فإنما اهتديت لها " .
وبيان تقابل هذا الكلام من جهة المعنى ، أن النفس كل ما هو عليها لها ، فهو ، أعني أن كل ما هو وبال عليها وصار لها فهو بسببها ومنها ؛ لأنها أمارة بالسوء ، وكل ما هو مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه إياها ، وهذا حكم لكل مكلف ، وإنما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسند إلى نفسه ؛ لأنه إذا دخل تحته مع علو محله كان غيره أولى به .
ومن هذا الضرب قوله تعالى : ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( النمل : 86 ) فإنه لم يدع التقابل في قوله : ليسكنوا فيه والنهار مبصرا لأن القياس يقتضي أن يكون " والنهار لتبصروا فيه " ، وإنما هو مراعى من جهة المعنى لا من جهة اللفظ ؛ لأن معنى " مبصرا " تبصرون فيه طرق التقلب في الحاجات .
واعلم أن في تقابل المعاني بابا عظيما يحتاج إلى فضل تأمل ، وهو يتصل غالبا بالفواصل ، كقوله تعالى : إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم ( البقرة : 11 - 12 ) إلى قوله : لا يشعرون ( البقرة : 12 ) .
وقوله : وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ( البقرة : 13 ) إلى قوله : لا يعلمون ( البقرة : 13 ) .
فانظر فاصلة الثانية ( يعلمون ) والتي قبلها ( يشعرون ) لأن أمر الديانة والوقوف [ ص: 509 ] على أن المؤمنين يجتمعون وهم مطيعون يحتاج إلى نظر واستدلال ، حتى يكسب الناظر المعرفة والعلم ؛ وإنما النفاق - وما فيه من الفتنة والفساد - أمر دنيوي مبني على العادات معلوم عند الناس ، فلذلك قال فيه : يعلمون .
وأيضا فإنه لما ذكر السفه في الآية الأخرى - وهو جهل - كان ذكر العلم طباقا . وعلى هذا تجيء فواصل القرآن ، وقد سبق في بابه .
ومن المقابلة قوله تعالى : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ( البقرة : 268 ) فتقدم اقتران الوعد بالفقر والأمر بالفحشاء ، ثم قوبل بشيء واحد ، وهو الوعد ، فأوهم الإخلال بالثاني ، وليس كذلك ؛ وإنما لما كان الفضل مقابلا للفقر ، والمغفرة مقابلة للأمر بالفحشاء ؛ لأن الفحشاء توجب العقوبة ، والمغفرة تقابل العقوبة ، استغني بذكر المقابل عن ذكر مقابله ؛ لأن ذكر أحدهما ملزوم ذكر الآخر .