( قال فاهبط منها ) الهبوط الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه ، أو من مكانة ومنزلة إلى ما دونها . فهو حسي ومعنوي ، والفاء لترتيب هذا الجزاء على ما ذكر من الذنب قبله ، والضمير عائد إلى الجنة التي خلق الله فيها آدم وكانت على نشز مرتفع من الأرض ، وقد كانت اليابسة قريبة العهد بالظهور في خضم الماء ، فخير ما يصلح منها لسكنى الإنسان يفاعها وأنشازها ، أو التي أسكنه إياها بعد خلقه في الأرض وهي جنة الجزاء على القول بها - يدل على ذلك ما ورد من الأمر بالهبوط له ولآدم وزوجه بعد ذكر سكنى الجنة من سورتي البقرة وطه . وقيل : إنه يعود إلى المنزلة التي كان عليها ملحقا بملائكة الأرض الأخيار قبل أن يميز الله الخبيث من الطيب من جنس الجنة ( بكسر الجيم ) بالسجود لآدم ، فيكون نوعين ملائكة وشياطين ، كما قيل في جنة آدم إنها عبارة عن حياة النعيم الأولى للنوع التي تشبه نعيم الطفولية لأفراده ، وتقدم شرح ذلك في تفسير آيات سورة البقرة ( فما يكون لك أن تتكبر فيها ) أي فما ينبغي لك وليس مما تعطاه من التصرف أن تتكبر في هذا المكان المعد للكرامة ، أو في هذه المكانة التي هي منزلة الملائكة لأنها مكانة الامتثال والطاعة . والكبر اسم للتكبر وهو مصدر تكبر أي تكلف أن يجعل نفسه أكبر مما هي عليه أو أكبر ممن هي في ذاتها أصغر منه ، وقد ورد في الحديث الصحيح بأنه " تفسير الكبر " رواه بطر الحق وغمط الناس مسلم وغيره وهو تفسير له بمظهره العملي الذي يترتب عليه الجزاء ، وهو ألا يذعن للحق إذا ظهر له بل يدفعه أو ينكره تجبرا وترفعا ، وأن يحتقر غيره بقول أو عمل يدل على [ ص: 297 ] عدم الاعتراف له بمزيته وفضله ، أو بتنقيص تلك المزية بادعاء أن ما دونها هو فوقها سواء ادعى ذلك لنفسه فرفعها على غيرها بالباطل ، أو ادعاه لغيره بأن يفضل بعض الناس على بعض بقصد احتقار المفضل عليه وتنقيص قدره . ( فاخرج إنك من الصاغرين ) هذا تأكيد للأمر بالهبوط متفرع عليه . أي فاخرج من هذا المكان أو المكانة . وعلل ذلك بقوله على طريق الاستئناف البياني : ( إنك من الصاغرين ) أي أولي الذلة والصغار ، أظهر حقيقتك الامتحان والاختبار الذي يميز بين الأخيار والأشرار ، بإظهاره لما كان كامنا في نفسك من عصيان الاستكبار . ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ) ( 3 : 179 ) وقال بعضهم : إنه تعالى جازاه بضد مراده ، إذ أراد أن يرفع نفسه عن منزلتها التي كانت فيها ، فجوزي بهبوطها منها إلى ما دونها ، كما ورد في بعض الأخبار من أن الله تعالى يحشر المتكبرين يوم القيامة بصورة حقيرة يطؤهم فيها الناس بأرجلهم ، كما أنه يبغضهم إلى الناس في الدنيا فيحتقرونهم ولو في أنفسهم - وهذا التوجيه أليق بقول من جعل الأمر للتكليف . ولكن الحافظ ابن كثير جرى عليه بعد جزمه بالقول بأنه للتكوين واقتصاره عليه قال :
" يقول تعالى لإبليس بأمر قدري كوني : فاهبط منها بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي ، فما يكون لك أن تتكبر فيها . قال كثير من المفسرين : الضمير عائد إلى الجنة . ويحتمل أن يكون عائدا إلى المنزلة التي هو فيها من الملكوت الأعلى ( فاخرج إنك من الصاغرين ) أي الذليلين الحقيرين . معاملة له بنقيض قصده ، ومكافأة لمراده بضده ، فعند ذلك استدرك اللعين ، وسأل النظرة إلى يوم الدين " .