( قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) أي قال تعالى له : ما منعك من امتثال الأمر فحملك على ألا تسجد لآدم مع الساجدين في الوقت الذي أمرتك فيه بالسجود ؟ واستدل علماء الأصول بهذا على أن الأمر يقتضي الوجوب على الفور ، ( قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) أي منعني من ذلك أنني أنا خير منه ؛ لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين ، والنار خير من الطين وأشرف ، ولا ينبغي للأشرف أن يكرم من دونه ويعظمه ، أي وإن أمره بذلك ربه ، وهذا الجواب يتضمن ضروبا من الجهل الفاضح ، ما أوقع اللعين فيها إلا حسده وكبره فإنهما يعميان البصائر .
( الأول ) الاعتراض على ربه وخالقه كما تضمنه جوابه ، ومثله في هذا كل من يعترض على كلام الله تعالى فيما لا يوافق هواه ، وهذا كفر لا يقع مثله من مؤمن بالله وبكتابه ، فإن المؤمن إذا خفيت عليه حقيقة أو حكمة لله في شيء من كلامه بحث عنها بالتفكر والبحث وسؤال العلماء ، وصبر إلى أن يهتدي إلى ما يطمئن به قلبه ، مكتفيا قبل ذلك بأن الله تعالى يعلم ما لا يعلم من حقائق خلقه ، وحكم شرعه ، وفوائد أمره ونهيه .
( الثاني ) الاحتجاج عليه بما يؤيد به اعتراضه ، والمؤمن المذعن لا يحتج على ربه ، بل يعلم أن لله الحجة البالغة .
( الثالث ) جعل امتثال أمر الرب تعالى مشروطا باستحسان العبد له وموافقته لرأيه وهواه ، وهو رفض لطاعة الرب ، وترفع عن مرتبة العبد ، وتعال منه إلى وضع نفسه موضع الند ، وهو في حكم الدين كفر ، وفي العقل حماقة وجهل ، فإن الرئيس لأية حكومة أو جيش أو جمعية أو شركة إذا كان لا يطيعه المرءوسون له إلا فيما يوافق أهواءهم ، وآراءهم ، لا يلبث أمرهم أن يفسد بأن تختل الحكومة وتسقط ، وينكسر الجيش ويهلك ، وتنحل الشركة وتفلس ، وهكذا يقال في كل مصلحة يقوم بإدارتها كثرة ، يرجع نظامها إلى جهة [ ص: 294 ] واحدة ، كبوارج الحرب وسفن التجارة ومعامل الصناعة ، فإذا كان الصلاح والنظام في كل أمر يتوقف على طاعة الرئيس وهو ليس ربا تجب طاعته لذاته ولا لنعمه ، ولا معصوما من الخطأ فيما يأمر به ، فما القول في وجوب طاعة رب العالمين على عبيده ؟ ! ويشارك إبليس في هذا الجهل وما قبله كثيرون ممن يسمون أنفسهم مؤمنين : يتركون طاعة الله تعالى فيما أمر به مما يخالف أهواءهم ، ويحتجون على ترك الصيام مثلا بأن لا فائدة في الجوع والعطش ، أو بأن الله غني عن صيامهم ! ! على أن حكم الصيام كثيرة جلية كما بيناها مرارا في التفسير ( ص117 وما بعدها ج 2 ط الهيئة ) . وفي المنار .
روى أبو نعيم في الحلية والديلمي عن عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " جعفر الصادق لآدم فقال أنا خير منه " . إلخ . قال أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال الله تعالى له اسجد جعفر فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس . وروى عن ابن جرير الحسن . أول من قاس إبليس .
( الرابع ) الاستدلال على الخيرية بالمادة التي كان منها التكوين . وهذا جهل ظاهر من وجوه : ( أحدها ) أن خيرية المواد بعضها على بعض ليس من الحقائق التي يمكن إثباتها بالبرهان ، وإنما هي أمور اعتبارية تختلف فيها الآراء والأهواء . وأصول المخلوقات المختلفة التركيب عناصر بسيطة قليلة يرجح أنها متحولة عن أصل واحد كما يعلم من فن الكيمياء .
( ثانيها ) أن بعض الأشياء النفيسة أصلها خسيس ، فالمسك من الدم ، وجوهر الألماس من الكربون الذي هو أصل الفحم ، والأقذار التي تعاف من مادة الطعام الذي يشتهى ويحب .
( ثالثها ) أن وهو قد خلق من مارج من نار ، وهو اللهب المختلط بالدخان فما فوقه دخان وما تحته لهب صاف ، فإن مادة المرج معناها الخلط والاضطراب . الملائكة خلقوا من النور
ولا شك في أن النور خير من النار ، والنار الصافية خير من اللهب المختلط بالدخان . وقد سجد الملائكة المخلوقون من النور امتثالا لأمر الله تعالى فكان هو أولى ، بل أولى بأن يقال له : أولى لك فأولى .
( الخامس ) إذا سلمنا جدلا أن خيرية الشيء ليست في ذاته وصفاته الخاصة التي تفصلها عن غيرها من مقومات نوعه ومشخصات نفسه وصفاته التي يمتاز بها عن غيره ، وإنما هي تابعة للمادة التي هي أصل جنسه - فلا نسلم أن النار خير من الطين ، فإن جميع الأحياء النباتية والحيوانية في هذه الأرض مخلوقة من الطين بالذات أو بالواسطة ، وهي خير ما فيها بكل نوع من أنواع الاعتبارات التي تعرفها العقول ، وليس للنار أو لمارجها مثل هذه المزايا ولا ما يقرب منها .
[ ص: 295 ] ( السادس ) أن اللعين غفل عما خص الله به آدم من خلقه بيده ، والنفخ فيه من روحه ، وجعل استعداده العلمي والعملي فوق استعداد غيره من خلقه ، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له ، وجعله بتلك المزايا أفضل من أولئك الملائكة ، وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة وبالطاعة .
فهذه أصول الجهل والغباوة التي أوقع إبليس فيها حسده لآدم واستكباره عن طاعة الله بالسجود له . وأنت ترى أن أولياءه ونظراءه من شياطين الإنس مرتكسون فيها كلها والعياذ بالله تعالى ، قال قتادة : آدم على ما أعطاه الله من الكرامة وقال : أنا ناري وهذا طيني ، فكان بدء الذنوب الكبر ، واستكبر عدو الله أن يسجد حسد عدو الله إبليس لآدم فأهلكه الله بكبره وحسده ، وسيأتي تفسير الكبر والتكبر .
وهذا التفصيل مبني على كون الأمر بالسجود للتكليف ، وأنه وقع حوار فيه بين الرب سبحانه وبين إبليس ، وأما على القول بأن الأمر للتكوين ( كما سيأتي عن ابن كثير ) وأن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشيطان ، فالمعنى أنه تعالى جعل ملائكة الأرض المدبرة بأمر الله وإذنه لأمورها بالسنن التي عليها مدار نظامها ، كما قال تعالى : ( فالمدبرات أمرا ) ( 79 : 5 ) مسخرة لآدم وذريته ، إذ خلق الله هذا النوع مستعدا للانتفاع بها كلها بعلمه بسنن الله تعالى فيها ، وبعمله بمقتضى هذه السنن كخواص الماء والهواء والكهرباء والنور والأرض معادنها ونباتها وحيوانها ، وإظهاره لحكم الله تعالى وآياته فيها ، ومستعدا لاصطفاء الله بعض أفراده ، واختصاصهم بوحيه ورسالته ، وإقامة من اهتدى بهم لدينه وميزان شرعه . وقد أشير إلى ذلك في سورة البقرة بقوله تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها ) ( 2 : 31 ) إلا أنه جعل الشيطان عاتيا متمردا على الإنسان بل عدوا له ، من حيث إن الإنسان بروحه وسط بين روح الملائكة المفطورين على طاعة الله وإقامة سننه في صلاح الخلق ، وبين روح الجن الذين يغلب على شرارهم - وهم الشياطين - التمرد والعصيان ، وقد أعطى الإنسان إرادة واختيارا من ربه في ترجيح ما به يصعد إلى أفق الملائكة ، وما به يهبط إلى أفق الشياطين ، وسيأتي تفصيل ذلك في هذا السياق .
وفي الآية من المباحث اللغوية زيادة " لا " في جملة " ما منعك ألا تسجد " إذ قال في سورة " ص " : ( ما منعك أن تسجد ) ( 38 : 75 ) وقد عهد في الكلام العربي الفصيح أن تجيء " لا " في سياق النفي الصريح وغير الصريح لتقويته وتوكيده ، وكذا في غير النفي وذلك على أنواع منها هذه الآية . وفي معناها قوله تعالى في تحاور موسى وهارون من سورة طه : ( قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري ) ( 20 : 92 ، 93 ) وعدوا من هذا القبيل قوله تعالى : ( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) ( 6 : 109 ) ، [ ص: 296 ] وقوله عز وجل : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ) ( 6 : 151 ) وفي كل منهما معنى النفي وتقدم تفسيرها .
ومنهم من خرج هذه الآيات وأمثالها من الشواهد على جعل " لا " غير زائدة وهي طريقة شيخنا رحمه الله . وتقدم ما اخترناه في آيتي الأنعام وأشرنا آنفا في هذه الآية إلى أن منع هنا تتضمن معنى الحمل ، والتضمين كثير من التنزيل وكلام العرب ولكن لم يجعله النحويون قياسا ، ويستدل عليه كثيرا بالتعدية كما بيناه في تفسير : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) ( 4 : 2 ) إذ ضمن الأكل معنى الضم فعدي ب " إلى " ، ويقرب منه تعبير سورة الحجر : ( ما لك ألا تكون مع الساجدين ) ( 15 : 32 ) والتقدير : أي شيء عرض لك فحملك على ألا تكون معهم . واختار تضمين المنع هنا معنى الإلزام والاضطرار ، فيكون التقدير : ما ألزمك أو اضطرك إلى ألا تسجد . ابن جرير
ومن مباحث البلاغة أن فإن من يسمع السؤال يتشوق لمعرفة الجواب . وينزل منزلة من يسأل عنه فيجاب . الفصل في حكاية السؤال والجواب جميعا بـ " قال " وارد على طريقة الاستئناف البياني