فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن في هذه الآية الكريمة إشارة إلى هذا القول الأخير ، وذلك في قوله تعالى : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج [ 5 \ 6 ] ، فقوله : من حرج نكرة في سياق النفي زيدت قبلها من ، والنكرة إذا كانت كذلك ، فهي نص في العموم ، كما تقرر في الأصول ، قال في " مراقي السعود " عاطفا على صيغ العموم : [ الرجز ]
وفي سياق النفي منها يذكر إذا بني أو زيد من منكر
فالآية تدل على عموم النفي في كل أنواع الحرج ، والمناسب لذلك كون من لابتداء الغاية ، لأن كثيرا من البلاد ليس فيه إلا الرمال أو الجبال ، فالتكليف بخصوص ما فيه غبار يعلق باليد ، لا يخلو من حرج في الجملة .
ويؤيد هذا ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " جابر بن عبد الله " ، وفي لفظ : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة ، فليصل " الحديث . فعنده مسجده وطهوره
فهذا نص صحيح صريح في أن من أن ذلك الصعيد الطيب الذي هو الحجارة ، أو الرمل طهور له ومسجد ; وبه تعلم أن ما ذكره أدركته الصلاة في محل ليس فيه إلا الجبال أو الرمال من تعين كون من للتبعيض غير صحيح ; فإن قيل : ورد في الصحيح ما يدل على تعين التراب الذي له غبار يعلق باليد ، دون غيره من أنواع الصعيد ، فقد أخرج الزمخشري مسلم في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " " الحديث ، فتخصيص التراب بالطهورية في مقام الامتنان يفهم منه أن غيره من الصعيد ليس كذلك ، فالجواب من ثلاثة أوجه : فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا ، إذا لم نجد الماء
الأول : أن كون الأمر مذكورا في معرض الامتنان ، مما يمنع فيه اعتبار مفهوم المخالفة ، كما تقرر في الأصول ، قال في " مراقي السعود " في موانع اعتبار مفهوم المخالفة : [ الرجز ]
[ ص: 355 ]
أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع
ولذا أجمع العلماء على جواز مع أن الله خص اللحم الطري منه في قوله : أكل القديد من الحوت وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا [ 16 \ 14 ] ; لأنه ذكر اللحم الطري في معرض الامتنان ، فلا مفهوم مخالفة له ، فيجوز أكل القديد مما في البحر .
الثاني : أن مفهوم التربة مفهوم لقب ، وهو لا يعتبر عند جماهير العلماء ، وهو الحق كما هو معلوم في الأصول .
الثالث : أن التربة فرد من أفراد الصعيد ; وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يكون مخصصا له عند الجمهور ، سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ 2 \ 238 ] ، أو ذكرا في نصين كحديث : " " ، عند أيما إهاب دبغ فقد طهر أحمد ، ومسلم ، ، وابن ماجه ، وغيرهم ، مع حديث : " والترمذي " ، يعني شاة ميتة عند الشيخين ، كلاهما من حديث هلا انتفعتم بجلدها ، فذكر الصلاة الوسطى في الأول ، وجلد الشاة في الأخير لا يقتضي أن غيرهما من الصلوات في الأول ، ومن الجلود في الثاني ليس كذلك ، قال في " مراقي السعود " عاطفا على ما لا يخصص به العموم : [ الرجز ] ابن عباس
وذكر ما وافقه من مفرد ومذهب الراوي على المعتمد
ولم يخالف في عدم التخصيص بذكر بعض أفراد العام بحكم العام ، إلا محتجا بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص . أبو ثور
وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة ، وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام ، والصعيد في اللغة : وجه الأرض ، كان عليه تراب ، أو لم يكن ، قاله الخليل ، ، وابن الأعرابي . والزجاج
قال : لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة ، قال الله تعالى : الزجاج وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا [ 18 \ 8 ] ، أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا ، وقال تعالى : فتصبح صعيدا زلقا [ 18 \ 40 ] ، ومنه قول : [ البسيط ] ذي الرمة
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به دبابة في عظام الرأس خرطوم
[ ص: 356 ] وإنما سمي صعيدا ; لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض ، وجمع الصعيد صعدات على غير قياس ، ومنه حديث : " " ، قاله إياكم والجلوس في الصعدات القرطبي وغيره عنه .
واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب ، فقالت طائفة : " الطيب " هو الطاهر ، فيجوز ، أو سبخة ، إذا كان ذلك طاهرا ، وهذا مذهب التيمم بوجه الأرض كله ، ترابا كان أو رملا ، أو حجارة ، أو معدنا مالك ، وأبي حنيفة ، ، وغيرهم . والثوري
وقالت طائفة : الطيب : الحلال ، فلا يجوز . وقال التيمم بتراب مغصوب ، الشافعي وأبو يوسف : الصعيد الطيب : التراب المنبت ، بدليل قوله تعالى : والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه الآية [ 7 \ 58 ]
فإذا علمت هذا ، فاعلم أن المسألة لها واسطة وطرفان : طرف أجمع جميع المسلمين على جواز التيمم به ، وهو التراب المنبت الطاهر الذي هو غير منقول ، ولا مغصوب ; وطرف أجمع جميع المسلمين على منع وغيرهما ، والنجاسات وغير هذا هو الواسطة التي اختلف فيها العلماء ، فمن ذلك المعادن . التيمم به ، وهو الذهب والفضة الخالصان ، والياقوت والزمرد ، والأطعمة كالخبز واللحم
فبعضهم يجيز التيمم عليها كمالك ، وبعضهم يمنعه ومن ذلك الحشيش ، فقد روى كالشافعي ابن خويز منداد عن مالك أنه يجيز إذا كان دون الأرض ، ومشهور مذهب التيمم على الحشيش مالك المنع ، ومن ذلك ، فروي عن التيمم على الثلج مالك في " المدونة " ، و " المبسوط جوازه " ، قيل : مطلقا ، وقيل : عند عدم الصعيد ، وفي غيرهما منعه .
واختلف عنه في ، فالجمهور على المنع ، وفي " مختصر الوقار " أنه جائز ، وقيل : يجوز في العود المتصل بالأرض دون المنفصل عنها ، وذكر التيمم على العود الثعلبي أن مالكا قال : لو أجزأه ، قال : وقال ضرب بيده على شجرة ، ثم مسح بها ، الأوزاعي : يجوز بالأرض ، وكل ما عليها من الشجر والحجر ، والمدر وغيرها حتى قالا : لو ضرب بيده على الجمد والثلج أجزأه . والثوري
وذكر الثعلبي عن أبي حنيفة أنه يجيزه بالكحل ، والزرنيخ ، والنورة ، والجص ، والجوهر المسحوق ، ويمنعه بسحالة الذهب ، والفضة ، والنحاس ، والرصاص ، لأن [ ص: 357 ] ذلك ليس من جنس الأرض .
وذكر النقاش عن ، ابن علية وابن كيسان أنهما أجازاه بالمسك ، والزعفران ، وأبطل ابن عطية هذا القول ، ومنعه بالسباخ ، وعن إسحاق بن راهويه نحوه ، وعنه فيمن ابن عباس أنه يطلي به بعض جسده ، فإذا جف تيمم به ، قاله أدركه التيمم ، وهو في طين القرطبي .
وأما جائز في مشهور مذهب التراب المنقول في طبق أو غيره ، فالتيمم به مالك ، وهو قول جمهور المالكية ، ومذهب ، وأصحابه ، وعن بعض المالكية ، وجماعة من العلماء منعه . الشافعي
وما طبخ كالجص ، والآجر ففيه أيضا خلاف عن المالكية ، والمنع أشهر .
واختلفوا أيضا في ، فقيل : جائز مطلقا ، وقيل : ممنوع مطلقا ، وقيل بجوازه للمريض دون غيره ، وحديث التيمم على الجدار أبي جهيم الآتي يدل على الجواز مطلقا .
والظاهر أن محله فيما إذا كان ظاهر الجدار من أنواع الصعيد ، ومشهور مذهب مالك جواز غير الذهب ، والفضة ما لم تنقل ، وجوازه على الملح غير المصنوع ، ومنعه بالأشجار ، والعيدان ونحو ذلك ، وأجازه التيمم على المعادن أحمد ، ، والشافعي على اللبد ، والوسائد ; ونحو ذلك إذا كان عليه غبار . والثوري
: القصد ، تيممت الشيء قصدته ، وتيممت الصعيد تعمدته ، وأنشد والتيمم في اللغة الخليل قول عامر بن مالك ، ملاعب الأسنة : [ البسيط ]
يممته الرمح شزرا ثم قلت له هذي البسالة لا لعب الزحاليق
تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي
وقول أعشى باهلة : [ المتقارب ]
تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمة ذي شزن
وقول حميد بن ثور : [ الطويل ]
سل الربع أنى يممت أم طارق وهل عادة للربع أن يتكلما
[ ص: 358 ] : القصد إلى الصعيد الطيب لمسح الوجه ، واليدين منه بنية استباحة الصلاة عند عدم الماء ، أو العجز عن استعماله ، وكون التيمم بمعنى القصد يدل على اشتراط النية في التيمم ، وهو الحق . والتيمم في الشرع