فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا . قوله تعالى :
أتى : تأتي لعدة معان ، منها بمعنى المجيء ، ومنها بمعنى الإنذار ، ومنها بمعنى المداهمة .
وقد توهم الرازي أنها من باب الصفات ، فقال : المسألة الثانية قوله : فأتاهم الله ، لا يمكن إجراؤه على ظاهره باتفاق جمهور العقلاء ، فدل على أن باب التأويل مفتوح ، وأن صرف الآيات عن ظواهرها بمقتضى الدلائل العقلية جائز . ا هـ .
وهذا منه على مبدئه في تأويل آيات الصفات ، ويكفي لرده أنه مبني على مقتضى الدلائل العقلية ، ومعلوم أن العقل لا مدخل له في باب صفات الله تعالى ؛ لأنها فوق مستويات العقول ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ 42 \ 11 ] ، ولا يحيطون به علما سبحانه وتعالى .
أما معنى الآية فإن سياق القرآن يدل على أن مثل هذا السياق ليس من باب الصفات كما في قوله تعالى : فأتى الله بنيانهم من القواعد [ 16 \ 26 ] ، أي هدمه واقتلعه من قواعده ، ونظيره : أتاها أمرنا ليلا أو نهارا [ 10 \ 24 ] ، وقوله : أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها [ 13 \ 41 ] ، وقوله أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها [ 21 \ 44 ] .
وفي الحديث عن - رضي الله عنه - في العدوى : أني قلت أتيت أي دهيت ، وتغير عليك حسك فتوهمت ما ليس بصحيح صحيحا . أبي هريرة
ويقال : أتي فلان بضم الهمزة وكسر التاء إذا أظل عليه العدو ، ومنه قولهم : من مأمنه [ ص: 18 ] يؤتى الحذر ، فيكون قوله تعالى : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، أخذهم ودهاهم وباغتهم من حيث لم يحتسبوا من قتل كعب بن الأشرف وحصارهم ، وقذف الرعب في قلوبهم .
وهناك موقف آخر في سورة البقرة يؤيد ما ذكرناه هنا ، وهو قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير [ 2 \ 109 ] . فقوله تعالى : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره وهو في سياق أهل الكتاب ، وهم بذاتهم الذين قال فيهم : فأتاهم الله فيكون فأتاهم الله هنا هو إتيان أمره تعالى الموعود في بادئ الأمر عند الأمر بالعفو والصفح .
وقد أورد الشيخ - رحمه الله - عند قوله تعالى : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره أن هذه الآية في أهل الكتاب كما هو واضح من السياق ، وقال : والأمر في قوله : بأمره ، قال بعض العلماء : هو واحد الأوامر ، وقال بعضهم : هو واحد الأمور .
فعلى القول الأول بأنه الأمر الذي هو ضد النهي فإن الأمر المذكور ، هو المصرح به في قوله : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ 9 \ 29 ] .
وعلى القول بأن واحد الأمور ، فهو ما صرح الله به في الآيات الدالة على ما أوقع باليهود من القتل ، والتشريد كقوله : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم الآية [ 59 \ 2 - 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، والآية غير منسوخة على التحقيق . ا هـ [ من الجزء الأول من الأضواء ] .
فقد نص - رحمه الله - على أن آية : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره مرتبطة بآية : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، هذه كما قدمنا : أن هذا هو الأمر الموعود به ، وقد أتاهم به من حيث لم يحتسبوا ، ويشهد لهذا كله القراءة الثانية ( فآتاهم ) بالمد بمعنى : أعطاهم وأنزل بهم ، ويكون الفعل متعديا والمفعول محذوفا دل عليه قوله : [ ص: 19 ] من حيث لم يحتسبوا أي : أنزل بهم عقوبة وذلة ومهانة جاءتهم من حيث لم يحتسبوا والعلم عند الله تعالى .