لأول الحشر . قوله تعالى :
اختلف في معنى الحشر في هذه الآية ، وبناء عليه اختلف في معنى الأول .
فقيل : المراد بالحشر أرض المحشر ، وهي الشام .
وقيل المراد بالحشر : الجمع .
واستدل القائلون بالأول بآثار منها : ما رواه ابن كثير عن عكرمة ، عن - رضي الله عنهما - قال : من شك في أن أرض المحشر هاهنا يعني ابن عباس الشام فليقرأ هذه الآية : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ، وما رواه أبو حيان في البحر عن عكرمة أيضا ، وساق والزهري ، قوله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لبني النضير : " اخرجوا " ، قالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى أرض المحشر " ، وعلى هذا تكون الأولية هنا مكانية ، أي : لأول مكان من أرض المحشر ، وهي أرض الشام ، وأوائله خيبر وأذرعات .
وقيل : إن الحشر على معناه اللغوي وهو الجمع ، قال أبو حيان في البحر المحيط : الحشر الجمع للتوجه إلى ناحية ما ، ومن هذا المعنى قيل : الحشر هو حشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكتائب ؛ لقتالهم ، وهو أول حشر منه لهم وأول قتال قاتلهم ، وعليه فتكون الأولية زمانية وتقتضي حشرا بعده ، فقيل : هو حشر عمر إياهم بخيبر ، وقيل : نار تسوق الناس من المشرق إلى المغرب ، وهو حديث في الصحيح ، وقيل : البعث .
إلا أن هذه المعاني أعم من محل الخلاف ؛ لأن النار المذكورة ، والبعث ليستا خاصتين باليهود ، ولا ببني النضير خاصة ، ومما أشار إليه الشيخ - رحمه الله - أن من أنواع البيان الاستدلال على أحد المعاني بكونه هو الغالب في القرآن ، ومثل له في المقدمة بقوله تعالى : لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] ، فقد قال بعض العلماء : بأن المراد بهذه الغلبة : الغلبة بالحجة والبيان ، والغالب في القرآن استعمال الغلبة بالسيف والسنان ، وذلك دليل واضح على دخول تلك الغلبة في الآية ؛ لأن خير ما يبين به القرآن القرآن .
[ ص: 16 ] وهنا في هذه الآية ، فإن غلبة استعمال القرآن بل عموم استعماله في الحشر إنما هو للجمع ، ثم بين المراد بالحشر لأي شيء منها قوله تعالى : وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير [ 27 \ 17 ] ، وقوله : وحشرنا عليهم كل شيء قبلا [ 6 \ 111 ] ، وقوله عن نبي الله داود : والطير محشورة كل له أواب [ 38 \ 19 ] ، وقوله تعالى عن فرعون : قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى [ 20 \ 59 ] ، وقوله تعالى : قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين [ 7 \ 111 ] ، وقوله : فحشر فنادى [ 79 \ 23 ] ، فكلها بمعنى الجمع .
وإذا استعمل بمعنى يوم القيامة فإنه يأتي مقرونا بما يدل عليه ، وهو جميع استعمالات القرآن لهذا ، مثل قوله تعالى : وترى الأرض بارزة وحشرناهم [ 18 \ 47 ] ، وذلك في يوم القيامة ؛ لبروز الأرض ، وقوله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا [ 19 \ 85 ] ، وذلك في يوم القيامة لتقييده باليوم ، وقوله تعالى : يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا [ 20 \ 102 ] ، وقوله تعالى : وإذا الوحوش حشرت [ 81 \ 5 ] ، وقوله تعالى : ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون [ 41 \ 19 ] ، إلى غير ذلك مما هو مقيد بما يعين المراد بالحشر ، وهو يوم القيامة .
فإذا أطلق كان لمجرد الجمع كما في الأمثلة المتقدمة ، وعليه فيكون المراد بقوله تعالى : لأول الحشر ، أن الراجح فيه لأول الجمع ، وتكون الأولية زمانية وفعلا ، فقد كان أول جمع لليهود ، وقد أعقبه جمع آخر لإخوانهم بني قريظة بعد عام واحد ، وأعقبه جمع آخر في خيبر ، وقد قدمنا ربط إخراج بني النضير من ديارهم بإنزال بني قريظة من صياصيهم ، وهكذا ربط جمع هؤلاء بأولئك إلا أن هؤلاء أجلوا وأخرجوا ، وأولئك قتلوا واسترقوا .
تنبيه
وكون الحشر بمعنى الجمع لا يتنافى مع كون خروجهم كان إلى أوائل الشام ؛ لأن الغرض الأول هو جمعهم للخروج من المدينة ، ثم يتوجهون بعد ذلك إلى الشام أو إلى غيرها .
وقد استدل بعض العلماء على أن توجههم كان إلى الشام من قوله تعالى : [ ص: 17 ] ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا [ 4 \ 47 ] ؛ لأن السياق في أهل الكتاب ، والتعريض بأصحاب السبت ألصق بهم .
فقال بعض المفسرين : الوجوه هنا هي سكناهم بالمدينة ، وطمسها تغير معالمها ، وردهم على أدبارهم ، أي : إلى بلاد الشام التي جاءوا منها أولا حينما خرجوا من الشام إلى المدينة ، انتظارا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، حكاه أبو حيان وحسنه . الزمخشري