قرأ هذا الحرف حمزة ( كبير الإثم ) ، بكسر الباء بعدها ياء ساكنة وراء على صيغة الإفراد . والكسائي
وقرأه الباقون بفتح الباء بعدها ألف فهمزة مكسورة قبل الراء على صيغة الجمع .
وقوله : والذين في محل جر عطفا على قوله : وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون أي وخير وأبقى أيضا للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش .
والفواحش جمع فاحشة . والتحقيق - إن شاء الله - أن . الفواحش من جملة الكبائر
والأظهر أنها من أشنعها; لأن الفاحشة في اللغة هي الخصلة المتناهية في القبح ، وكل متشدد في شيء مبالغ فيه فهو فاحش فيه .
ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
فقوله : الفاحش ، أي المبالغ في البخل المتناهي فيه .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وعده - تعالى - الصادق للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش بما عنده لهم من الثواب الذي هو خير وأبقى - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، فبين - تعالى - في سورة " النساء " أن من ذلك تكفيره - تعالى - عنهم سيئاتهم ، وإدخالهم المدخل الكريم وهو الجنة ، في قوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [ 4 \ 31 ] . وبين في سورة " النجم " أنهم باجتنابهم كبائر الإثم والفواحش - يصدق عليهم اسم المحسنين ، ووعدهم على ذلك بالحسنى .
[ ص: 75 ] والأظهر أنها الجنة ، ويدل له حديث " " في تفسير قوله - تعالى - : الحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] كما قدمناه .
وآية " النجم " المذكورة هي قوله - تعالى - : ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] . ثم بين المراد بالذين أحسنوا في قوله : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة [ 53 \ 23 ] .
وأظهر الأقوال في قوله : ( إلا اللمم ) - أن المراد باللمم صغائر الذنوب ، ومن أوضح الآيات القرآنية في ذلك قوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ 4 \ 31 ] . فدلت على أن ، اجتناب الكبائر سبب لغفران الصغائر . وخير ما يفسر به القرآن القرآن
ويدل لهذا حديث الثابت في الصحيح قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبو هريرة آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان المنطق ، والنفس تمني وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " . إن الله كتب على ابن
وعلى هذا القول فالاستثناء في قوله : ( إلا اللمم ) منقطع; لأن اللمم الذي هو الصغائر على هذا القول لا يدخل في الكبائر والفواحش ، وقد قدمنا تحقيق المقام في الاستثناء المنقطع في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما [ 19 \ 62 ] .
وقالت جماعة من أهل العلم : الاستثناء متصل ، قالوا : وعليه فمعنى ( إلا اللمم ) إلا أن يلم بفاحشة مرة ، ثم يجتنبها ولا يعود لها بعد ذلك .
واستدلوا لذلك بقول الراجز :
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما
[ ص: 76 ] وقال بعض العلماء : المراد باللمم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي قبل الدخول في الإسلام . ولا يخفى بعده .
وأظهر الأقوال هو ما قدمنا لدلالة آية " النساء " المذكورة عليه ، وحديث المتفق عليه . ابن عباس
واعلم أن ، وقد جاء تعيين بعضها ، كالسبع الموبقات ، أي المهلكات لعظمها ، وقد ثبت في الصحيح من حديث كبائر الإثم ليست محدودة في عدد معين أنها : أبي هريرة . الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات
وقد جاءت روايات كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعيين بعض الكبائر كعقوق الوالدين ، واستحلال حرمة بيت الله الحرام ، والرجوع إلى البادية بعد الهجرة ، وشرب الخمر ، واليمين الغموس ، والسرقة ، ومنع فضل الماء ، ومنع فضل الكلإ ، وشهادة الزور .
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن أن ابن مسعود . وفي بعضها أيضا " أن من الكبائر تسبب الرجل في سب والديه " . وفي بعضها أيضا " أكبر الكبائر الإشراك بالله الذي خلق الخلق ، ثم قتل الرجل ولده خشية أن يطعم معه ، ثم زناه بحليلة جاره " . وذلك يدل على أنهما من الكبائر . أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفر
وفي بعض الروايات " " . أن من الكبائر الوقوع في عرض المسلم ، والسبتين بالسبة
وفي بعض الروايات " أن منها جمع الصلاتين من غير عذر " .
وفي بعضها " أن منها اليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله " . ويدل عليهما قوله - تعالى - : إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون [ 12 \ 87 ] . وقوله : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [ 7 \ 99 ] .
وفي بعضها " أن منها سوء الظن بالله " . ويدل له قوله - تعالى - : ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا [ 48 \ 6 ] .
وفي بعضها " أن منها الإضرار في الوصية " .
[ ص: 77 ] وفي بعضها " أن منها الغلول " . ويدل له قوله - تعالى - : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة [ 3 \ 161 ] . وقدمنا معنى الغلول في سورة " الأنفال " ، وذكرنا حكم الغال .
وفي بعضها " أن من أهل الكبائر الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " . ويدل له قوله - تعالى - : أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم [ 3 \ 77 ] . ولم نذكر أسانيد هذه الروايات ونصوص متونها خوف الإطالة ، وأسانيد بعضها لا تخلو من نظر ، لكنها لا يكاد يخلو شيء منها عن بعض الشواهد الصحيحة من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
واعلم أن أهل العلم اختلفوا في ; فقال بعضهم : هي كل ذنب استوجب حدا من حدود الله . حد الكبيرة
وقال بعضهم : هي كل ذنب جاء الوعيد عليه بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب .
واختار بعض المتأخرين حد الكبيرة بأنها هي كل ذنب دل على عدم اكتراث صاحبه بالدين .
وعن أن الكبائر أقرب إلى السبعين منها إلى السبع . وعنه أيضا أنها أقرب إلى سبعمائة منها إلى سبع . ابن عباس
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق أنها لا تنحصر في سبع ، وأن ما دل عليه من الأحاديث على أنها سبع لا يقتضي انحصارها في ذلك العدد; لأنه إنما دل على نفي غير السبع بالمفهوم ، وهو مفهوم لقب ، والحق عدم اعتباره .
ولو قلنا : إنه مفهوم عدد - لكان غير معتبر أيضا; لأن زيادة الكبائر على السبع مدلول عليها بالمنطوق .
وقد جاء منها في الصحيح عدد أكثر من سبع ، والمنطوق مقدم على المفهوم ، مع أن مفهوم العدد ليس من أقوى المفاهيم .
والأظهر عندي في ضابط الكبيرة أنها كل ذنب اقترن بما يدل على أنه أعظم من مطلق المعصية ، سواء كان ذلك الوعيد عليه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ، أو كان وجوب الحد فيه ، أو غير ذلك مما يدل على تغليظ التحريم وتوكيده .
[ ص: 78 ] مع أن بعض أهل العلم قال : إن كل ذنب كبيرة . وقوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ 4 \ 31 ] . وقوله : إلا اللمم [ 53 \ 32 ] يدل على عدم المساواة ، وأن بعض المعاصي كبائر ، وبعضها صغائر ، والمعروف عند أهل العلم أنه لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار . والعلم عند الله - تعالى - .