فروع تتعلق بهذه المسألة .
الفرع الأول : اعلم أن أهل العلم اختلفوا في أو لا يشترط فيها ؟ فقال بعضهم : لا يشترط فيها الإيمان ، فلو أعتق المظاهر عبدا ذميا مثلا أجزأه ، وممن قال بهذا القول الرقبة في كفارة الظهار ، هل يشترط فيها الإيمان أبو حنيفة وأصحابه ، وعطاء ، ، والثوري والنخعي ، ، وأبو ثور وابن المنذر ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، قاله في " المغني " .
وحجة أهل هذا القول أن الله تعالى قال في هذه الآية الكريمة : فتحرير رقبة ، [ ص: 213 ] ولم يقيدها بالإيمان ، فوجب أن يجزئ ما تناوله إطلاق الآية ، قالوا : وليس لأحد أن يقيد ما أطلقه الله في كتابه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه . وممن قال باشتراط الإيمان في رقبة كفارة الظهار : مالك ، ، والشافعي والحسن ، وإسحاق ، وأبو عبيدة ، وهو ظاهر مذهب ، قاله في " المغني " . واحتج لأهل هذا القول بما تقرر في الأصول من حمل المطلق على المقيد . الإمام أحمد
وقد بينا مسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في سورة " النساء " ، في الكلام على قوله تعالى في كفارة القتل الخطأ : حمل المطلق على المقيد ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة الآية [ 4 \ 92 ] ، بقولنا فيه وحاصل تحرير المقام في مسألة تعارض المطلق والمقيد : أن لها أربع حالات : الأولى : أن يتحد حكمهما وسببهما معا كتحرير الدم ، فإن الله قيده في سورة " الأنعام " ، بكونه مسفوحا في قوله تعالى : إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا [ 6 \ 145 ] ، وأطلقه عن القيد بكونه مسفوحا في سورة " النحل " و " البقرة " و " المائدة " . قال في " النحل " : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به [ 2 \ 115 ] ، وقال في " البقرة " : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله [ 2 \ 173 ] ، وقال في " المائدة " : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير الآية [ 6 \ 3 ] . وجمهور العلماء يقولون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة التي هي اتحاد السبب والحكم معا ، ولذلك كانوا لا يرون بالحمرة التي تعلو القدر من أثر تقطيع اللحم بأسا ; لأنه دم غير مسفوح ، قالوا : وحمله عليه أسلوب من أساليب اللغة العربية ، لأنهم يثبتون ثم يحذفون اتكالا على المثبت ، ومنه قول قيس بن الخطيم الأنصاري :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
فحذف راضون لدلالة راض عليه . وقول ضابئ بن الحارث البرجمي :
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
والأصل : فإني غريب وقيار أيضا غريب ، فحذف إحدى الكلمتين لدلالة الأخرى عليها . وقول عمرو بن أحمر الباهلي : [ ص: 214 ]
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوى رماني
يعني : كنت بريئا منه ، وكان والدي بريئا منه أيضا . وقول : النابغة الجعدي
وقد زعمت بنو سعد بأني وما كذبوا كبير السن فاني
يعني : زعمت بنو سعد أني فان وما كذبوا . . إلخ .
وقالت جماعة من أهل الأصول : إن حمل المطلق على المقيد بالقياس ، لا بدلالة اللفظ وهو أظهرها . وقيل : بالعقل ، وهو أضعفها وأبعدها .
الحالة الثانية : هي أن يتحد الحكم ، ويختلف السبب ، كالمسألة التي نحن بصددها ، فإن الحكم في آية المقيد وآية المطلق واحد ، وهو عتق رقبة في كفارة ، ولكن السبب فيهما مختلف ; لأن سبب المقيد قتل خطأ ، وسبب المطلق ظهار ، ومثل هذا المطلق يحمل على المقيد عند الشافعية ، والحنابلة ، وكثير من المالكية ، ولذا شرطوا الإيمان في كفارة الظهار حملا لهذا المطلق على المقيد ، خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه ، قالوا : ويعتضد حمل هذا المطلق على المقيد بقوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه : " " ، ولم يستفصله عنها ، هل هي في كفارة أو لا ؟ وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في الأقوال . قال في " مراقي السعود " : اعتقها فإنها مؤمنة
ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال
الحالة الثالثة : عكس هذه ، وهي الاتحاد في السبب مع الاختلاف في الحكم ، فقيل : يحمل فيها المطلق على المقيد . وقيل : لا ، وهو قول أكثر العلماء ، ومثلوا له بصوم الظهار ، وإطعامه ، فسببهما واحد وهو الظهار ، وحكمهما مختلف ; لأن أحدهما تكفير بصوم ، والآخر تكفير بإطعام ، وأحدهما مقيد بالتتابع ، وهو الصوم . والثاني مطلق عن قيد التتابع ، وهو الإطعام ، فلا يحمل هذا المطلق على هذا المقيد . والقائلون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة ، مثلوا لذلك بإطعام الظهار ، فإنه لم يقيد بكونه من قبل أن يتماسا ، مع أن عتقه وصومه قد قيدا بقوله : من قبل أن يتماسا ، فيحمل هذا المطلق على المقيد ، فيجب كون الإطعام قبل المسيس ، ومثل له اللخمي بالإطعام في كفارة اليمين حيث قيد بقوله : من أوسط ما تطعمون أهليكم [ 5 \ 89 ] ، مع إطلاق الكسوة عن القيد بذلك ، في قوله : أو كسوتهم [ 5 \ 89 ] فيحمل هذا المطلق على المقيد ، فيشترط في [ ص: 215 ] الكسوة أن تكون من أوسط ما تكسون أهليكم .
الحالة الرابعة : أن يختلفا في الحكم والسبب معا ، ولا حمل في هذه إجماعا وهو واضح ، وهذا فيما إذا كان المقيد واحدا . أما إذا ورد مقيدان بقيدين مختلفين ، فلا يمكن حمل المطلق على كليهما لتنافي قيديهما ، ولكنه ينظر فيهما ، فإن كان أحدهما أقرب للمطلق من الآخر حمل المطلق على الأقرب له منهما عند جماعة من العلماء ، فيقيد بقيده . وإن لم يكن أحدهما أقرب له ، فلا يقيد بقيد واحد منهما ، ويبقى على إطلاقه إذ لا ترجيح بلا مرجح ، ومثال كون أحدهما أقرب للمطلق من الآخر صوم كفارة اليمين ، فإنه مطلق عن قيد التتابع والتفريق ، مع أن صوم الظهار مقيد بالتتابع في قوله تعالى : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين [ 58 \ 4 ] ، وصوم التمتع مقيد بالتفريق في قوله تعالى : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم [ 2 \ 196 ] ، واليمين أقرب إلى الظهار من التمتع ; لأن كلا من صوم الظهار واليمين صوم كفارة بخلاف صوم التمتع ، فيقيد صوم كفارة اليمين بالتتابع عند من يقول بذلك ، ولا يقيد بالتفريق الذي في صوم التمتع .
وقراءة : [ فصيام ثلاثة أيام متتابعات ] لم تثبت ; لإجماع ابن مسعود الصحابة على عدم كتب متتابعات في المصاحف العثمانية ، ومثال كونهما ليس أحدهما أقرب للمطلق من الآخر : صوم قضاء رمضان ، فإن الله تعالى قال فيه : فعدة من أيام أخر [ 2 \ 185 ] ، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق ، مع أنه تعالى قيد صوم الظهار بالتتابع ، وصوم التمتع بالتفريق ، وليس أحدهما أقرب إلى صوم قضاء رمضان من الآخر ، فلا يقيد بقيد واحد منهما بل يبقى على الاختيار ، إن شاء تابعه ، وإن شاء فرقه ، والعلم عند الله تعالى . انتهى من " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، مع زيادة يسيرة للإيضاح .