( من بعده ) ، من : تفيد ابتداء الغاية ، ويتعارض مدلولها مع مدلول ثم ; لأن ( ثم ) تقتضي وقوع الاتخاذ بعد مهلة من المواعدة ، و ( من ) تقتضي ابتداء الغاية في التعدية التي تلي المواعدة ، إذ الظاهر عود الضمير على موسى ، ولا تتصور التعدية في الذات ، فلا بد من حذف ، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه لفظ واعدنا ، أي من بعد مواعدته ، فلا بد من ارتكاب المجاز في أحد الحرفين ، إلا إن قدر محذوف غير المواعدة ، وهو أن يكون التقدير من بعد ذهابه إلى الطور ، فيزول التعارض ، إذ المهلة تكون بين المواعدة والاتخاذ . ويبين المهلة قصة الأعراف ، إذ بين المواعدة والاتخاذ هناك جمل كثيرة ، وابتداء الغاية يكون عقيب الذهاب إلى الطور ، فلم تتوارد المهلة والابتداء على شيء واحد ، فزال التعارض . وقيل : الضمير في ( بعده ) يعود على الذهاب ، أي من بعد الذهاب ، ودل على ذلك أن المواعدة تقتضي الذهاب ، فيكون عائدا على غير مذكور ، بل على ما يفهم من سياق الكلام ، نحو قوله تعالى : ( حتى توارت بالحجاب ) ، ( فأثرن به نقعا ) أي توارت الشمس ، إذ يدل عليها قوله : بالعشي ، وأي فأثرن بالمكان ، إذ يدل عليه ( والعاديات ) ( فالموريات ) ، ( فالمغيرات ) ، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا في مكان فاقتضته ودلت [ ص: 201 ] عليه . وقيل : الضمير يعود على الإنجاء ، أي من بعد الإنجاء ، وقيل : على الهدى ، أي من بعد الهدى ، وكلا هذين القولين ضعيف .
( وأنتم ظالمون ) : جملة حالية ، ومتعلق الظلم ، قيل : ظالمون بوضع العبادة في غير موضعها ، وقيل : بتعاطي أسباب هلاكها ، وقيل : برضاكم فعل السامري في اتخاذه العجل ، ولم تنكروا عليه . ويحتمل أن تكون الجملة غير حال ، بل إخبار من الله أنهم ظالمون ، أي سجيتهم الظلم ، وهو وضع الأشياء في غير محلها . وكان المعنى : ثم اتخذتم العجل من بعده وكنتم ظالمين ، كقوله تعالى : ( اتخذوه وكانوا ظالمين ) . وأبرز هذه الجملة في صورة ابتداء وخبر ; لأنها أبلغ وآكد من الجملة الفعلية ولموافقة الفواصل . وظاهر قوله : ( ثم اتخذتم ) العموم ، وأنهم كلهم عبدوا العجل إلا هارون ، وقيل : الذين عكفوا على عبادته من قوم موسى ثمانية آلاف رجل ، وقيل : كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفا ، قيل : وهذا هو الصحيح ، وقيل : إلا هارون والسبعين رجلا الذين كانوا مع موسى . واتخاذ السامري العجل دون سائر الحيوانات ، قيل : لأنهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم وكانت على صور البقر ، فقالوا : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، فهجس في نفس السامري أن يفتنهم من هذه الجهة ، فاتخذ لهم العجل ، وقيل : إنه كان من قوم يعبدون البقر ، وكان منافقا يظهر الإيمان بموسى ، فاتخذ عجلا من جنس ما كان يعبده ، وفي اتخاذهم العجل إلها دليل على أنهم كانوا مجسمة أو حلولية ، إذ من اعتقد تنزيه الله عن ذلك واستحالة ذلك عليه بالضرورة ، تبين له بأول وهلة فساد دعوى أن العجل إله . وقد نقل المفسرون عن ابن عباس والسدي وغيرهما قصصا كثيرا مختلفا في سبب اتخاذ العجل ، وكيفية اتخاذه ، وانجر مع ذلك أخبار كثيرة ، الله أعلم بصحتها ، إذ لم يشهد بصحتها كتاب ولا حديث صحيح ، فتركنا نقل ذلك على عادتنا في هذا الكتاب .
( ثم عفونا عنكم ) : تقدمت معاني عفا ، ويحتمل أن يكون عفا عنه من باب المحو والإذهاب ، أو من باب الترك ، أو من باب السهولة . والعفو والصفح متقاربان في المعنى . وقال قوم : لا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب ، فإن كان العفو هنا بمعنى الترك أو التسهيل ، فيكون ( عنكم ) عام اللفظ خاص المعنى ; لأن العفو إنما كان عمن بقي منهم ، وإن كان بمعنى المحو ، كان عاما لفظا ومعنى ، فإنه تعالى تاب على من قتل ، وعلى من بقي ، قال تعالى : ( فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم ) . وروي أن الله أوحى إلى موسى بعد قتلهم أنفسهم أني قبلت توبتهم فمن قتل فهو شهيد ، ومن لم يقتل فقد تبت عليه وغفرت له . وقالت المعتزلة : عفونا عنكم ، أي بسبب إتيانكم بالتوبة ، وهي قتل بعضهم بعضا : ( من بعد ذلك ) إشارة إلى اتخاذ العجل ، وقيل : إلى قتلهم أنفسهم ، والأول أظهر .
( لعلكم ) : تقدم الكلام في لعل في قوله : ( لعلكم تتقون ) ، لغة ودلالة معنى بالنسبة إلى الله تعالى ، فأغنى عن إعادته . ( تشكرون ) : أي تثنون عليه تعالى بإسدائه نعمه إليكم ، وتظهرون النعمة بالثناء ، وقالوا : الشكر باللسان ، وهو الحديث بنعمة المنعم ، والثناء عليه بذلك وبالقلب ، وهو اعتقاد حق المنعم على المنعم عليه ، وبالعمل ( اعملوا آل داود شكرا ) ، وبالله أي شكرا لله بالله ; لأنه لا يشكره حق شكره إلا هو ، وقال بعضهم :
وشكر ذوي الإحسان بالقول تارة وبالقلب أخرى ثم بالعمل الأسنى وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي
ومعنى ( لعلكم تشكرون ) أي عفو الله عنكم ; لأن العفو يقتضي الشكر ، قاله الجمهور ، أو تظهرون نعمة الله عليكم في العفو ، أو تعترفون بنعمتي ، أو تديمون طاعتي ، أو تقرون بعجزكم عن شكري . أربعة أقوال . وقال : الشكر طاعة الجوارح . وقال ابن عباس الجنيد : الشكر هو العجز عن الشكر . وقال [ ص: 202 ] الشبلي : التواضع تحت رؤية المنة . وقال الفضيل : أن لا تعصي الله . وقال أبو بكر الوراق أن تعرف النعمة من الله . وقال ذو النون : الشكر لمن فوقك بالطاعة ، ولنظيرك بالمكافأة ، ولمن دونك بالإحسان . قال القشيري : سرعة العفو عن عظيم الجرم دالة على حقارة المعفو عنه ، يشهد لذلك : ( من يأت منكن بفاحشة مبينة يضعف لها العذاب ضعفين ) ، وهؤلاء بنو إسرائيل عبدوا العجل فقال تعالى : ( ثم عفونا عنكم من بعد ذلك ) ، وقال لهذه الأمة : ( ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) . انتهى كلامه . وناسب ترجي الشكر إثر ذكر العفو ; لأن العفو عن مثل هذه الزلة العظيمة التي هي اتخاذ العجل إلها هو من أعظم أو أعظم إسداء النعم ، فلذلك قال : ( لعلكم تشكرون ) .
( وإذ آتينا موسى الكتاب ) : هو التوراة بإجماع المفسرين . ( والفرقان ) : هو التوراة ، ومعناه أنه آتاه جامعا بين كونه كتابا وفرقانا بين الحق والباطل ، ويكون من عطف الصفات ; لأن الكتاب في الحقيقة معناه : المكتوب ، قاله ، واختاره الزجاج ، وبدأ بذكره الزمخشري ابن عطية قال : كرر المعنى لاختلاف اللفظ ، ولأنه زاد معنى التفرقة بين الحق والباطل ، ولفظة كتاب لا تعطي ذلك ، أو الواو مقحمة ، أي زائدة ، وهو نعت للكتاب ، قال الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
قاله ، وهو ضعيف ، وإنما قوله : ( الكسائي وابن الهمام وليث ) من باب عطف الصفات بعضها على بعض . ولذلك شرط ، وهو أن تكون الصفات مختلفة المعاني . أو النصر ; لأنه فرق بين العدو والولي في الغرق والنجاة ، ومنه قيل ليوم بدر : يوم الفرقان ، قاله . أو سائر الآيات التي أوتي ابن عباس موسى - على نبينا وعليه السلام - من العصا واليد وغير ذلك ; لأنها فرقت بين الحق والباطل . أو الفرق بين الحق والباطل ، قاله أبو العالية ومجاهد . أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام . أو البرهان الفارق بين الكفر والإيمان ، قاله ابن بحر وابن زيد ، أو الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ، ومنه قوله تعالى : ( يجعل لكم فرقانا ) أي فرجا ومخرجا . وهذا القول راجع لمعنى النصر .
أو القرآن . والمعنى أن الله آتى موسى ذكر نزول القرآن على محمد ، صلى الله عليه وسلم ، حتى آمن به ، حكاه . أو القرآن على حذف مفعول ، التقدير : ومحمدا الفرقان ، وحكي هذا عن ابن الأنباري الفراء وقطرب وثعلب ، وقالوا : هو كقول الشاعر :
وزججن الحواجب والعيونا
التقدير : وكحلن العيون . ورد هذا القول مكي والنحاس وجماعة ; لأنه لا دليل على هذا المحذوف ، ويصير نظير : أطعمت زيدا خبزا ولحما ، ويكون اللحم أطعمته غير زيد ، ولأن الأصل في العطف أنه يشارك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم السابق ، إذا كان العطف بالحروف المشتركة في ذلك ، وليس مثل ما مثلوا به من : وزججن الحواجب والعيون ، لما هو مذكور في النحو .
وقد جاء : ( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء ) وذكروا جميع الآيات التي آتاها الله تعالى موسى لأنها فرقت بين الحق والباطل .
أو انفراق البحر ، قاله يمان وقطرب ، وضعف هذا القول بسبق ذكر فرق البحر في قوله : ( وإذ فرقنا ) وبذكر ترجية الهداية عقيب الفرقان ، ولا يليق إلا بالكتاب .
وأجيب بأنه ، وإن سبق ذكر الانفلاق ، فأعيد هنا ونص عليه ، بأنه آية لموسى مختصة به ، وناسب ذكر الهداية بعد فرق البحر لأنه من الدلائل التي يستدل بها على وجود الصانع وصدق موسى - على نبينا وعليه السلام - وذلك هو الهداية ; أو لأن المراد بالهداية النجاة والفوز ، وبفرق البحر حصل لهم ذلك فيكون قد ذكر لهم نعمة الكتاب الذي هو أصل الديانات لهم ، ونعمة النجاة من أعدائهم ، فهذه اثنتا عشرة مقالة للمفسرين في المراد بالفرقان هنا .
[ ص: 203 ] لعلكم تهتدون : ترجية لهدايتهم ، وقد تقدم الكلام في لعل . وفي لفظ ابن عطية في لعل هنا ، وفي قوله قبل : لعلكم تشكرون ، أنه توقع ، والذي تقرر في النحو أنه إن كان متعلق ( لعل ) محبوبا ، كانت للترجي ، فإن كان محذورا ، كانت للتوقع ، كقولك : لعل العدو يقدم .
والشكر والهداية من المحبوبات ، فينبغي أن لا يعبر عن معنى ( لعل ) هنا إلا بالترجي . قال القشيري : فرقان هذه الأمة الذي اختصوا به نور في قلوبهم ، يفرقون به بين الحق والباطل : استفت قلبك ، اتقوا فراسة المؤمن ، المؤمن ينظر بنور الله . إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا .
وذلك الفرقان ما قدموه من الإحسان . انتهى كلامه .
وناسب ترجي الهداية إثر ذكر إتيان موسى الكتاب والفرقان ; لأن الكتاب به تحصل الهداية ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ) ، ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى ) ، ( وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ) . وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر الامتنان على بني إسرائيل فصولا ، منها : فرق البحر بهم على الوجه الذي ذكر من كونه صار اثني عشر مسلكا على عدد الأسباط وبين كل سبط حاجز يمنعهم من الازدحام دون أن يلحقهم في ذلك استيحاش ; لأنه صار في كل حاجز كوى بحيث ينظر بعضهم إلى بعض على ما نقل ، وهو من أعظم الآيات الدالة على صدق موسى على نبينا وعليه السلام ، وهذا الفرق هو النعمة الثالثة ; لأن الأولى هي التفضيل ، والثانية هي الإنجاء من آل فرعون ، والثالثة هي هذا الفرق وما ترتب عليه من إنجائهم من الغرق وإغراق أعدائهم وهم ينظرون بحيث لا يشكون في هلاكهم ، ثم استطرد بعد ذلك إلى ذكر النعمة الرابعة ، وهي العفو عن الذنب العظيم الذي ارتكبوه من عبادة العجل ، فذكر سبب ذلك ، وأنه اتفق ذلك لغيبة موسى عنهم لمناجاة ربه ، وأنهم على قصر مدة غيبته انخدعوا بما فعله السامري هذا ، ولم يطل عليهم الأمد ، وخليفة موسى فيهم أخوه هارون ينهاهم فلا ينتهون ، ومع هذه الزلة العظيمة عفا عنهم وتاب عليهم ، فأي نعمة أعظم من هذه ؟ ثم ذكر النعمة الخامسة وهي ثمرة الوعد ، وهو إتيان موسى التوراة التي بها هدايتهم ، وفيها مصالح دنياهم وآخرتهم .
وجاء ترتيب هذه النعم متناسقا يأخذ بعضه بعنق بعض ، وهو ترتيب زماني ، وهو أحد الترتيبات الخمسة التي مر ذكرها في هذا الكتاب ; لأن التفضيل أمر حكمي ، فهو أول ثم وقعت النعم بعده ، وهي أفعال يتلو بعضها بعضا ، فأولها الإنجاء من سوء العذاب - ذبح الأبناء واستحياء النساء - بإخراج موسى إياهم من مصر ، بحيث لم يكن لفرعون ولا لقومه عليهم تسليط بعد هذا الخروج والإنجاء ، ثم فرق البحر بهم وإرائهم عيانا هذا الخارق العظيم ، ثم وعد الله لموسى بمناجاته ، وذهابه إلى ذلك ، ثم اتخاذهم العجل ، ثم العفو عنهم ، ثم إيتاء موسى التوراة . فانظر إلى حسن هذه الفصول التي انتظمت انتظام الدر في أسلاكها ، والزهر في أفلاكها ، كل فصل منها قد ختم بمناسبه ، وارتقى في ذروة الفصاحة إلى أعلى مناصبه ، واردا من الله على لسان محمد أمينه ، لسان من لم يتل من قبل كتابا ولا خطه بيمينه .