وقرأ أبو مجلز : تلبسون ، بضم التاء ، وكسر الباء المشددة ، والتشديد هنا للتكثير ، كقولهم : جرحت وقتلت ، وأجاز الفراء ، في : ويكتمون ، النصب ، فتسقط النون من حيث العربية على قولك : لم تجمعون ذا وذا ؟ فيكون نصبا على الصرف في قول الكوفيين ، وبإضمار : أن ، في قول البصريين . وأنكر ذلك والزجاج أبو علي ، وقال : الاستفهام وقع على اللبس فحسب . وأما يكتمون ، فخبر حتما لا يجوز فيه إلا الرفع ، بمعنى أنه ليس معطوفا على تلبسون ، بل هو استئناف ، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق ، وقال ابن عطية : قال أبو علي : الصرف هاهنا يقبح ، وكذلك إضمار : أن ، لأن يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، وبمنزلة قولك : أتقوم فأقوم ؟ والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب ، إلا في ضرورة شعر ، كما روي :
وألحق بالحجاز فأستريحا
وقد قال : في قولك : أسرت حتى تدخلها ، لا يجوز إلا النصب ، [ ص: 492 ] في : تدخل ، لأن السير مستفهم عنه غير موجب . وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلها ، رفعت ; لأن السير موجب ، والاستفهام إنما وقع عن غيره انتهى ما نقله سيبويه ابن عطية عن أبي علي . والظاهر تعارض ما نقل مع ما قبله ، لأن ما قبله فيه : أن الاستفهام وقع على اللبس فحسب ، وأما : يكتمون ، فخبر حتما لا يجوز فيه إلا الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أن : يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطف على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون : ويكتمون ، إخبارا محضا لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار أن في جوابه ، تبعه في ذلك ابن مالك . فقال في ( التسهيل ) حين عد ما يضمر أن ، لزوما في الجواب ، فقال : أو لاستفهام لا يتضمن وقوع الفعل ، فإن تضمن وقع الفعل لم يجز النصب عنده ، نحو : لم ضربت زيدا ، فيجازيك ؟ لأن الضرب قد وقع ، ولم نر أحدا من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي ، وتبعه فيه ابن مالك في الاستفهام ، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله ، إما لكونه ليس ثم فعل ، ولا ما في معناه ينسبك منه ، وإما لاستحالة سبك مصدر ، مراد استقباله ، لأجل مضي الفعل ، فإنما يقدر فيه مصدر استقباله مما يدل عليه المعنى ، فإذا قال : لم ضربت زيدا فأضربك ؟ . أي : ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا ، وما رد به أبو علي ، على أبي إسحاق ليس بمتجه ; لأن قوله : ( لم تلبسون ) ليس نصا على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة ، إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره ، لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله . ولو فرضنا أنه ماض حقيقة ، فلا رد فيه على أبي إسحاق ، لأنه كما قررنا قبل : إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة ، سبكناه من لازم الجملة .
وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع ، نحو : أين ذهب زيد فنتبعه ؟ وكذلك في : كم مالك فنعرفه ؟ ومن أبوك فنكرمه ؟ لكنه يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير : ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا . وليكن : منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا . وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام منا له . وقرأ : لم تلبسوا ، وتكتموا ، بحذف النون فيهما ، قالوا : وذلك جزم ، قالوا : ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في إلحاق : لم ، بـ " لم " في عمل الجزم . وقال عبيد بن عمير السجاوندي : ولا وجه له إلا أن : لم ، تجزم الفعل عند قوم كلم انتهى . والثابت في لسان العرب أن لم ، لا ينجزم ما بعدها ، ولم أر أحدا من النحويين ذكر أن " لم " تجري مجرى : " لم " في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا ، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع ، وقد جاء ذلك في النثر قليلا جدا ، وذلك في قراءة أبي عمر ، ومن بعض طرقه قالوا : ساحران تظاهران ، بتشديد الظاء ، أي : أنتما ساحران تتظاهران فأدغم التاء في الظاء ، وحذف النون ، وأما في النظم ، فنحو قول الراجز :
أبيت أسري وتبيتي تدلكي
يريد : وتبيتين تدلكين . وقال :
فإن يك قوم سرهم ما صنعتمو ستحتلبوها لاقحا غير باهل
والظاهر : أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل ، وكتم الحق ، وكأن الحق منقسم إلى قسمين : قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز ، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر . ( وأنتم تعلمون ) جملة حالية تنعي عليهم ما التبسوا به من لبس الحق بالباطل وكتمانه ، أي : لا يناسب من علم الحق أن يكتمه ، ولا أن يخلطه بالباطل ، والسؤال عن السبب ، سؤال عن المسبب ، فإذا أنكر السبب فبالأولى أن ينكر المسبب ، وختمت الآية قبل هذه بقوله : ( وأنتم تشهدون ) وهذه بقوله : ( وأنتم تعلمون ) لأن المنكر عليهم في تلك هو الكفر [ ص: 493 ] بآيات الله ، وهي أخص من الحق ، لأن آيات الله بعض الحق ، والشهادة أخص من العلم ، فناسب الأخص الأخص ، وهنا الحق أعم من الآيات وغيرها ، والعلم أعم من الشهادة ، فناسب الأعم الأعم . وقالوا في قوله : ( وأنتم تعلمون ) أي : أنه نبي حق ، وأن ما جاء به من عند الله حق . وقيل : قال : ( وأنتم تعلمون ) ليتبين لهم الأمر الذي يصح به التكليف ، ويقوم عليهم به الحجة . وقيل : ( وأنتم تعلمون ) الحق بما عرفتموه من كتبكم وما سمعتموه من ألسنة أنبيائكم . وفي هذه الآيات أنواع من البديع : الطباق في قوله : الحق بالباطل ، والطباق المعنوي في قوله : ( لم تكفرون وأنتم تشهدون ) لأن الشهادة إقرار وإظهار ، والكفر ستر . والتجنيس المماثل في : يضلونكم ومايضلون . والتكرار في : أهل الكتاب . والحذف في مواضع قد بينت .