( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) ، الظاهر أن " تعجل " هنا لازم لمقابلته بلازم في قوله : ( من تأخر ) ، فيكون مطاوعا لعجل ، فتعجل ، نحو كسره فتكسر ، ومتعلق التعجل محذوف ، التقدير : بالنفس ، ويجوز أن يكون تعجل متعديا ومفعوله محذوف أي : فمن تعجل النفر ، ومعنى : في يومين من الأيام المعدودات . وقالوا : المراد أنه ينفر في اليوم الثاني من أيام التشريق ، وسبق كلامنا على تعليق " في يومين " بلفظ " تعجل " ، وظاهر قوله : " فمن تعجل " العموم ، فسواء في ذلك الآفاقي والمكي ، لكل منهما أن ينفر في اليوم الثاني ، وبهذا قال عطاء . قال ابن المنذر : وهو يشبه مذهب ، وبه نقول ، انتهى كلامه . فتكون الرخصة لجميع الناس من أهل الشافعي مكة وغيرهم . وقال مالك وغيره : ولم يبح التعجيل إلا لمن بعد قطره لا للمكي ولا للقريب ، إلا أن يكون له عذر . وروي عن عمر أنه قال : من شاء من الناس كلهم فلينفر في النفر الأول ، إلا آل خزيمة ، فإنهم لا ينفرون إلا في النفر الآخر ، وجعل أحمد ، وإسحاق قول عمر : إلا آل خزيمة ، أي أنهم أهل حرم ، وكان أحمد يقول : لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة .
وظاهر قوله : " في يومين " أن التعجل لا يكون بالليل ، بل في شيء من النهار ، ينفر إذا فرغ من رمي الجمار ، وهو مذهب ، وهو مروي عن الشافعي قتادة . وقال أبو حنيفة : قبل طلوع الفجر ، ويعني من اليوم الثالث ، وروي عن عمر ، وابن عامر ، ، وجابر بن زيد والحسن ، والنخعي أنهم قالوا : من أدركه العصر وهو بمنى في اليوم الثاني من أيام التشريق لم ينفر حتى الغدو ، وهذا مخالف لظاهر القرآن : لأنه قال : " في يومين " ، وما بقي من اليومين شيء فسائغ له النفر فيه ، قال ابن المنذر : ويمكن أن يقولوا ذلك استحبابا . وظاهر قوله : " ومن تعجل " سقوط الرمي عنه في اليوم الثالث ، فلا يرمي جمرات اليوم الثالث في يوم نفره . وقال : يرميها في يوم النفر الأول حين يريد التعجل . قال ابن أبي زمنين : يرمي المتعجل في يومين إحدى وعشرين حصاة ، كل جمرة بسبع حصيات ، فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة ، يعني : لأنه قد رمى جمرة العقبة بسبع يوم النحر . قال ابن المواز : ويسقط رمي اليوم الثالث . وظاهر قوله ( ابن المواز واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل ) إلى آخره . مشروعية المبيت بمنى أيام التشريق : لأن التعجل والتأخر إنما هو في النفر من منى ، وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد من الحجاج أن يبيت إلا بها إلا للرعاء ، ومن ولي السقاية من آل العباس ، فمن ترك المبيت من غيرهما ليلة من ليالي منى ، فقال مالك ، وأبو حنيفة : عليه دم ، وقال : من ترك المبيت في الثلاث الليالي ، فإن ترك مبيت ليلة واحدة فيلزمه ثلث دم ، أو مد أو درهم ، ثلاثة أقوال ، ولم تتعرض الآية للرمي لا حكما ، ولا وقتا ، ولا عددا ، ولا مكانا لشهرته عندهم . وتؤخذ أحكامه من السنة . وقيل : في قوله " واذكروا الله " تنبيه عليه ، إذ من سنته التكبير على كل حصاة منها ، فلا إثم عليه . وقرأ الشافعي : " فلا إثم عليه " بوصل الألف ، ووجهه أنه سهل الهمزة بين بين ، فقربت بذلك من [ ص: 112 ] السكون فحذفها تشبيها بالألف ، ثم حذف الألف لسكونها وسكون التاء ، وهذا جواب الشرط إن جعلنا " من " شرطية ، وهو الظاهر ، وإن جعلناها موصولة كان ذلك في موضع الخبر ، وظاهره نفي الإثم عنه ، ففسر بأنه مغفور له ، وكذلك من تأخر مغفور له لا ذنب عليه ، روي هذا عن سالم بن عبد الله علي ، وأبي ذر ، ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والشعبي ، وقال ومطرف بن الشخير : خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وروي عن معاوية بن قرة عمر ما يؤيد هذا القول ، وقال مجاهد : المعنى من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام القابل . والذي يظهر أن المعنى : فلا إثم عليه في التعجيل ولا إثم عليه في التأخير : لأن الجزاء مرتب على الشرط ، والمعنى أنه لا حرج على من تعجل ولا على من تأخر ، وقاله عطاء ، وذلك أنه لما أمرهم تعالى بالذكر في أيام معلومات ، وهذه الأيام قد فسرت بما أقله جمع ، وهي : ثلاثة أيام ، أو بأربعة ، أو بالعشر ، ثم أبيح لهم النفر في ثاني أيام التشريق ، وكان يقتضي الأمر بالذكر في جميع هذه الأيام أن لا تعجيل ، فنفى بقوله " فلا إثم عليه " الحرج عن من خفف عنه المقام إلى اليوم الثالث ، فينفر فيه ، وسوى بينه في الإباحة وعدم الحرج ، وبين من تأخر ، فعم الأيام الثلاثة بالذكر ، وهذا التقسيم يدل على التخيير بين التعجيل والتأخر ، والتخيير قد يتبع بين الفاضل والأفضل ، فقيل : جاء " ومن تأخر فلا إثم عليه " : لأجل مقابلة " فمن تعجل فلا إثم عليه " ، فنفى الإثم عنه وإن كان أفضل لذلك ، وقيل : فلا إثم عليه في ترك الرخصة . وقيل : كان أهل الجاهلية فريقين : منهم من يؤثم المتعجل ، ومنهم من يؤثم المتأخر ، فجاء القرآن برفع الإثم عنهما ، وقيل : إنه عبر بذلك عن المغفرة ، كما روي عن علي ومن معه . وهذا أمر اشترك فيه المتعجل والمتأخر ، وقيل : المعنى : ومن تأخر عن الثالث إلى الرابع ولم ينفر مع عامة الناس فلا إثم عليه ، فكأنه قيل : أيام منى ثلاثة ، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخر فلا إثم عليه . وفي هاتين الجملتين الشرطيتين من علم البديع الطباق في قوله " فمن تعجل " ، " ومن تأخر " ، والطباق ذكر الشيء وضده ، كقوله : ( وأنه هو أضحك وأبكى ) ، وهو هنا طباق غريب : لأنه ذكر تعجل مطابق تأخر ، وفي الحقيقة مطابق تعجل تأنى ، ومطابق تأخر تقدم ، فعبر في تعجل بالملزوم عن اللازم ، وعبر في تأخر باللازم عن الملزوم . وفيها من علم البيان المقابلة اللفظية ، إذ المتأخر أتى بزيادة في العبادة ، فله زيادة في الأجر ، وإنما أتى بقوله " فلا إثم عليه " مقابلا لقوله " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " ، كقوله : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) ، وتقدمت الإشارة إلى هذا .
( لمن اتقى ) قيل : هو متعلق بقوله " واذكروا الله " ، أي الذكر لمن اتقى ، وقيل : بانتفاء الإثم ، أي : يغفر له بشرط اتقائه الله فيما بقي من عمره ، قاله أبو العالية ، وقيل : المعنى ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي ، لئلا يختلج في قلبه شيء منهما ، فيحسب أن أحدهما ترهق صاحبه آثام في الإقدام عليه : لأن ذا التقوى حذر متحرز من كل ما يريبه : ولأنه هو الحاج على الحقيقة ، قاله ، وقال أيضا : لا يجوز أن يراد ذلك الذي مر ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى : لأنه هو المنتفع به دون من سواه ، كقوله : ذلك خير للذين يريدون وجهه ، انتهى كلامه . و " اتقى " هنا حاصلة " لمن " . وهي بلفظ الماضي ، فقيل : هو ماضي المعنى أيضا ، أي : المغفرة لا تحصل إلا لمن كان متقيا منيبا قبل حجه ، نحو : ( الزمخشري إنما يتقبل الله من المتقين ) ، وحقيقته أن المصر على الذنب لا ينفعه حجه وإن كان قد أدى الفرض في الظاهر ، وقيل : اتقى جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج ، قال قتادة ، وأبو صالح . وقال : لمن اتقى في الإحرام الرفث والفسوق والجدال ، وقال ابن عباس الماتريدي : لمن اتقى قتل الصيد في الإحرام . وقيل : يراد به المستقبل ، أي : لمن يتقي الله في باقي عمره كما قدمناه . والظاهر تعلقه بالآخر وهو انتفاء الإثم لقربه منه ، ولصحة المعنى أيضا ، إذ من لم يكن متقيا لم يرتفع الإثم عنه .
[ ص: 113 ] والظاهر أن مفعول اتقي المحذوف هو الله ، أي : لمن اتقى الله ، وكذا جاء مصرحا به في مصحف عبد الله .
( واتقوا الله ) ، لما ذكر تعالى رفع الإثم ، وأن ذلك يكون لمن اتقى الله ، أمر بالتقوى عموما ، ونبه على ما يحمل على اتقاء الله بالحشر إليه للمجازاة ، فيكون ذلك حاملا لهم على اتقاء الله : لأن من علم أنه يحاسب في الآخرة على ما اجترح في الدنيا اجتهد في أن يخلص من العذاب ، وأن يعظم له الثواب ، وإذا كان المأمور بالتقوى موصوفا بها ، كان ذلك الأمر أمرا بالدوام ، وفي ذكر الحشر تخويف من المعاصي ، وذكر الأمر بالعلم دليل على أنه لا يكفي في اعتقاد الحشر إلا الجزم الذي لا يجامعه شيء من الظن ، وقدم " إليه " للاعتناء بمن يكون الحشر إليه ، ولتواخي الفواصل والمعنى إلى جزائه . وقد تكملت أحكام الحج المذكورة في هذه السورة من ذكر وقت الحج إلى آخر فعل ، وهو النفر ، وبدئت أولا بالأمر بالتقوى ، وختمت به ، وتخلل الأمر بها في غضون الآي ، وذلك ما يدل على تأكيد مطلوبيتها ، ولم لا تكون كذلك وهي اجتناب مناهي الله وإمساك مأموراته ، وهذا غاية الطاعة لله تعالى ، وبها يتميز الطائع من العاصي ؟ ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ) ، نزلت في الأخنس بن شريق ، واسمه أبي ، وكان حلو اللسان والمنظر ، يجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويظهر حبه والإسلام ، ويحلف على ذلك ، فكان يدنيه ولا يعلم ما أضمر ، وكان من ثقيف حليفا لبني زهرة ، فجرى بينه وبين ثقيف شيء ، فبيتهم ليلا وأحرق زرعهم ، وأهلك مواشيهم ، قاله عطاء ، والكلبي ، ومقاتل . وقال : فمر بزرع للمسلمين وحمر ، فأحرق الزرع ، وغفر الحمر ، قيل : وفيه نزلت ( السدي ولا تطع كل حلاف مهين ) ، و ( ويل لكل همزة لمزة ) . وقال : في كفار ابن عباس قريش ، أرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إنا قد أسلمنا ، فابعث إلينا من يعلمنا دينك ، وكان ذلك مكرا منهم ، فبعث إليهم خبيبا ومرثدا ، وعاصم بن ثابت ، وابن الدثنة ، وغيرهم ، وتسمى سرية الرجيع ، والرجيع موضع بين مكة والمدينة ، فقتلوا ، وحديثهم طويل مشهور في الصحاح . وقال قتادة ، وابن زيد : نزلت في كل منافق أظهر بلسانه ما ليس في قلبه . وروي عن : أنها في المنافقين ، قالوا عن سرية الرجيع : ويح هؤلاء ما قعدوا في بيوتهم ، ولا أدوا رسالة صاحبهم . ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما قسم السائلين الله قبل إلى مقتصر على أمر الدنيا ، وسائل حسنة الدنيا والآخرة ، والوقاية من النار ، أتى بذكر النوعين هنا ، فذكر من النوع الأول من هو حلو المنطق ، مظهر الود ، وليس ظاهره كباطنه ، وعطف عليه من يقصد رضى الله تعالى ، ويبيع نفسه في طلبه ، وقدم هنا الأول : لأنه هناك المقدم في قوله : فمنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا ، وأحال هنا على إعجاب قوله دون غيره ، من الأوصاف ، لأن القول هو الظاهر منه أولا في قوله تعالى : ( ابن عباس فمن الناس من يقول ربنا ) ، فكان من حيث توجهه إلى الله تعالى في الدعاء ، ينبغي أن يكون لا يقتصر على الدنيا ، وأن يسأل منه أن ينجيه من عذابه ، وكذلك هذا الثاني ينبغي أن لا يقتصر على حلاوة منطقه ، بل كان يطابق في سريرته لعلانيته . و " من " من قوله " من يعجبك " موصولة ، وقيل : نكرة موصوفة ، والكاف في " يعجبك " خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن كانت نزلت في معين ، كالأخنس أو غيره ، أو خطاب لمن كان مؤمنا إن كانت نزلت في غير معين ممن ينافق قديما أو حديثا . ومعنى إعجاب قوله استحسانه لموافقة ما أنت عليه من الإيمان والخير ، وجاء في الترمذي : " أن في بعض كتب الله : " " الحديث . إن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصبر
" في الحياة " متعلق بـ " قوله " ، أي يعجبك مقالته في معنى الدنيا : لأن ادعاءه المحبة والتبعية بالباطل يطلب به حظا من حظوظ الدنيا . ولا يريد به الآخرة ، إذ لا تراد الآخرة إلا بالإيمان الحقيقي ، والمحبة الصادقة ، وقال ، بعد أن ذكر [ ص: 114 ] هذا الوجه : ويجوز أن يتعلق بيعجبك أي : قوله حلو ، فيصح في الدنيا فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة ، لما ترهقه في الموقف من الحبسة واللكنة ، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام ، فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه ، انتهى . وفيه بعد . والذي يظهر أنه متعلق بـ " يعجبك " لا على المعنى الذي قاله ، والمعنى أنك تستحسن مقالته دائما في مدة حياته ، إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجب رائق لطيف ، فمقالته في الظاهر معجبة دائما . ألا تراه يعدل على تلك المقالة الحسنة الرائقة ، إلى مقالة خشنة منافية ، ومع ذلك أفعاله منافية لأقواله الظاهرة ، وأقواله الباطنة مخالفة أيضا لأقواله الظاهرة ؟ إذ لا يحمل قوله " يعجبك قوله " ، وقوله : ( الزمخشري وهو ألد الخصام ) ، إلا على حالتين : فهو حلو المقالة في الظاهر ، شديد الخصومة في الباطن .
( ويشهد الله على ما في قلبه ) ، قرأ الجمهور بضم الياء وكسر الهاء . ونصب الجلالة من " أشهد " ، وقرأ أبو حيوة ، وابن محيصن بفتح الياء والهاء ورفع الجلالة ، من شهد ، وقرأ أبي ، " ويستشهد الله " ، والمعنى على قراءة الجمهور ، وتفسير الجمهور ، أنه يحلف بالله ويشهده أنه صادق وقائل حقا ، وأنه محب في الرسول والإسلام ، وقد جاءت الشهادة في معنى القسم في قصة الملاعنة في سورة النور ، قيل : ويكون اسم الله انتصب بسقوط حرف الجر ، والتقدير : ويقسم بالله على ما في قلبه ، وهذا سهو : لأن الذي يكون يقسم به هو الثلاثي لا الرباعي ، تقول : أشهد بالله لأفعلن ، ولا تقول : أشهد بالله . والظاهر عندي أن المعنى : أنه يطلع الله على ما في قلبه ، ولا يعلم به أحد لشدة تكتمه وإخفائه الكفر ، وهو ظاهر قوله : ( وابن مسعود على ما في قلبه ) : لأن الذي في قلبه هو خلاف ما أظهر بقوله . وعلى تفسير الجمهور يحتاج إلى حذف " ما " ؛ يصح به المعنى ، أي : ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه : لأن الذي في قلبه هو الكفر ، وهو لا يحلف عليه ، إنما يحلف على ضده ، وهو الذي يعجب به . ويقوي هذا التأويل قراءة أبي حيوة ، وابن محيصن ، إذ معناها : ويطلع الله على ما في قلبه من الكفر الذي هو خلاف قوله . وقراءة : ويستشهد ، يجوز أن تكون فيها استفعل ، بمعنى أفعل ، نحو أيقن واستيقن ، فيوافق قراءة الجمهور ، وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون فيها استفعل بمعنى المجرد ، فيكون استشهد بمعنى شهد ، ويظهر إذ ذاك أن لفظ الجلالة منصوب على إسقاط حرف الجر ، أي ويستشهد بالله ، كما تقول : ويشهد بالله ، ولا بد من الحذف حتى يصح المعنى ، أي : ويستشهد بالله على خلاف ما في قلبه ، والظاهر أن قوله " ويشهد الله " معطوف على قوله " يعجبك " ، فهو صلة ، أو صفة . ويجوز أن تكون الواو واو الحال لا واو العطف ، فتكون الجملة حالا من الفاعل المستكن في " يعجبك " ، أو من الضمير المجرور في " قوله " . التقدير : وهو يشهد الله ، فيكون ذلك قيدا في الإعجاب ، أو في القول ، والظاهر عدم التقييد ، وأنه صلة ، ولما يلزم في الحال من الإضمار للمبتدأ : لأن المضارع المثبت ومعه الواو يقع حالا بنفسه ، فاحتيج إلى إضمار كما احتاجوا إليه في قولهم : قمت وأصك عينه ، أي : وأنا أصك ، والإضمار على خلاف الأصل .
( وهو ألد الخصام ) أي : أشد المخاصمين ، فالخصام جمع خصم ، قاله ، وإن أريد بالخصام المصدر ، كما قاله الزجاج الخليل ، فلا بد من حذف مصحح لجريان الخبر على المبتدأ ، إما من المبتدأ ، أي : وخصامه ألد الخصام ، وإما من متعلق الخبر ، أي : وهو ألد ذوي الخصام ، وجوز أن يراد هنا بالخصام المصدر على معنى اسم الفاعل ، كما يوصف بالمصدر في رجل خصم ، وأن يكون أفعل لا للمفاضلة ، كأنه قيل : وهو شديد الخصومة ، وأن يكون هو ضمير الخصومة ، يفسره سياق الكلام ، أي : وخصامه أشد الخصام . وتقاربت أقاويل المفسرين في " ألد الخصام " . قال : معناه ذو الجدال ، وقال ابن عباس الحسن : الكاذب المبطل ، وقال قتادة : شديد القسوة في معصية الله ، وقال : أعوج الخصومة . وقال السدي مجاهد : لا يستقيم على حق في الخصومة . والظاهر أن هذه الجملة الابتدائية معطوفة على صلة " من " ، فهي صلة ، وجوزوا أن [ ص: 115 ] تكون حالا معطوفة على " ويشهد " إذا كانت حالا ، أو حالا من الضمير المستكن في " ويشهد " . وإذا كان الخصام جمعا ، كان " ألد " من إضافة بعض إلى كل ، وإذا كان مصدرا فقد ذكرنا تصحيح ذلك بالحذف الذي قررناه ، فإن جعلته بمعنى اسم الفاعل ، فهو كالجمع في أن " أفعل " بعض ما أضيف إليه ، وإن تأولت " أفعل " على غير بابها ، " فألد " من باب إضافة الصفة المشبهة . وقال : والخصام المخاصمة ، وإضافة الألد بمعنى في ، كقولهم : " ثبت الغدر " ، انتهى . يعني أن " أفعل " ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه ، بل هي إضافة على معنى " في " ، وهذا مخالف لما يزعمه النحاة من أن أفعل التفضيل لا يضاف إلا لما هي بعض له ، وفيه إثبات الإضافة بمعنى " في " ، وهو قول مرجوح في النحو ، قالوا : وفي هذه الآية دليل على الاحتياط بما يتعلق بأمور الدين والدنيا ، واستواء أحوال الشهود والقضاة ، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم ، حتى يبحث عن باطنهم : لأن الله بين أحوال الناس ، وأن منهم من يظهر جميلا وينوي قبيحا . الزمخشري