( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) . سبب نزولها أن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية ، كعكاظ ، وذي المجاز ، ومجنة ، فأباح الله لهم ذلك ، قاله ، ابن عمر ، وابن عباس ومجاهد ، وعطاء ، وقال مجاهد أيضا : كان بعض العرب لا ينحرون مذ يحرمون ، فنزلت في إباحة ذلك ، وروي عن أنها نزلت فيمن يكرى في الحج ، وأن حجه تام . وقرأ ابن عمر ، ابن مسعود ، وابن عباس وابن الزبير : " فضلا من ربكم في مواسم الحج " ، والأولى جعل هذا تفسيرا : لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمعت عليه الأمة .
والجناح معناه : الدرك ، وهو أعم من الإثم : لأنه فيما يقتضي العقاب ، وفيما يقتضي الزجر والعقاب ، وعنى بالفضل هنا الأرباح التي تكون سبب التجارة ، وكذلك ما تحصل عن الأجر بالكراء في الحج ، وقد انعقد الإجماع على جواز التجارة والاكتساب - بالكل - والإتجار إذا أتى بالحج على وجهه ، إلا ما نقل شاذا عن ، وأنه سأله أعرابي أنا أكري إبلي ، وأنا أريد الحج أفيجزيني ؟ قال : " لا ، ولا كرامة " . وهذا مخالف لظاهر الكتاب والإجماع فلا يعول عليه . سعيد بن جبير
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما نهى عن الجدال ، والتجارة قد تفضي إلى المنازعة ، ناسب أن يتوقف فيها : لأن ما أفضى إلى المنهي عنه منهي عنه ، أو لأن التجارة كانت محرمة عند أهل الجاهلية وقت الحج ، إذ من يشتغل بالعبادة يناسبه أن لا يشغل نفسه بالأكساب الدنيوية ، أو لأن المسلمين لما صار كثير من المباحات محرما عليهم في الحج ، كانوا بصدد أن تكون التجارة من هذا القبيل عندهم ، فأباح الله ذلك ، وأخبرهم أنه لا درك عليهم فيه في أيام الحج . ويؤيد ذلك قراءة من قرأ : في مواسم الحج . وحمل أبو مسلم الآية على أنه فيما بعد الحج ، ونظيره : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) ، فقاس الحج على الصلاة ، وضعف قوله بدخول الفاء في " فإذا قضيتم " ، وهذا فصل بعد ابتغاء الفضل ، فدل على أن ما قبل الإفاضة وقع في زمان الحج . ولأن محل شبهة الامتناع هو التجارة في زمان الحج ، لا بعد الفراغ [ ص: 95 ] منه ، لأن كل أحد يعلم حل التجارة إذ ذاك ، فحمله على محل الشبهة أولى ، ولأن قياس الحج على الصلاة قياس فاسد : لاتصال أعمال الصلاة بعضها ببعض ، وافتراق أعمال الحج بعضها من بعض ، ففي خلالها يبقى الحج على الحكم الأول : حيث لم يكن حاجا ، لا يقال : حكم الحج منسحب عليه في تلك الأوقات ، بدليل حرمة الطيب واللبس ونحوهما : لأنه قياس في مقابلة النص ، فهو ساقط ونسب إليه . فإن الفضل هنا هو ما يعمل الإنسان مما يرجو به فضل الله ورحمته ، من إعانة ضعيف ، وإغاثة ملهوف ، وإطعام جائع ، واعترضه القاضي بأن هذه الأشياء واجبة أو مندوب إليها ، فلا يقال فيها " لا جناح عليكم " ، إنما يقال في المباحات والتجارة إن أوقعت نقصا في الطاعة ، لم تكن مباحة ، وإن لم توقع نقصا فالأولى تركها ، فهي إذا جارية مجرى الرخص . وتقدم إعراب مثل : أن تبتغوا ، في قوله : ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) ، و " من ربكم " متعلق بـ " تبتغوا " و " من " لابتداء الغاية ، أو بمحذوف ، وتكون صفة لفضل . فتكون " من " لابتداء الغاية أيضا ، أو للتبعيض ، فيحتاج إلى تقدير مضاف محذوف أي : من فضول .
( فإذا أفضتم من عرفات ) ، قيل : فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة : لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده . انتهى هذا القول ، ولا يظهر من هذا الشرط الوجوب ، إنما يعلم منه الحصول في عرفة ، والوقوف بها ، فهل ذلك على سبيل الوجوب أو الندب ؟ لا دليل في الآية على ذلك ، لكن السنة الثابتة والإجماع يدلان على ذلك . وقال في ( المنتخب ) : الإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات ، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب ، فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، فإذا لم يأت به لم يكن إيتاء بالحج المأمور به ، فوجب أن لا يخرج عن العهدة ، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطا ، انتهى كلامه .
فقوله : الإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات ، كلام مبهم ، فإن عني مشروط وجودها ، أي : وجود الإفاضة بالحصول في عرفات فصحيح ، والوجود لا يدل على الوجوب ، وإن عني مشروط وجوبها بالحصول في عرفات فلا نسلم ذلك ، بل نقول : لو وقف بعرفة واتخذها مسكنا إلى أن مات لم تجب عليه الإفاضة منها ، ولم يكن مفرطا في واجب إذا مات بها ، وحجه تام إذا كان قد أتى بالأركان كلها . وقوله : وما لا يتم الواجب إلى آخر الجملة ، مرتبة على أن الإفاضة واجبة ، وقد منعنا ذلك ، وقوله : فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، مبني على ما قبله ، وقد بينا أنه لا يلزم ذلك ، و " إذا " لا تدل على تعين زمان ، بل تدل على تيقن الوجود أو رجحانه ، فظاهره يقتضي أنه متى أفاض من عرفات جاز له ذلك ، واقتضى ذلك أن الوقوف بعرفة الذي تعتقبه الإفاضة كان مجزيا .
ووقت الوقوف من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر بلا خلاف ، وأجمعوا على أن من وقف بالليل فحجه تام ، ولو أفاض قبل الغروب ، وكان وقف بعد الزوال ، فأجمعوا على أن حجه تام ، إلا مالكا فقال : يبطل حجه . وروي نحوه عن الزبير ، وقال مالك : ويحج من قابل وعليه هدي ينحره في حجه القابل . ومن قال : حجه تام ، فقال الحسن : عليه هدي ، وقال : بدنة ، وقال ابن جريج عطاء ، ، والثوري وأبو حنيفة ، ، والشافعي وأحمد ، : عليه دم . ولو أفاض قبل الغروب ثم عاد إلى وأبو ثور عرفة ، فدفع بعد الغروب ، فذهب أبو حنيفة ، ، والثوري ، إلى أنه لا يسقط الدم . وذهب وأبو ثور ، الشافعي وأحمد ، وإسحاق ، وداود الطبري إلى أنه لا شيء عليه . وحديث عروة بن مضرس : وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه ، موافق لظاهر الآية في عدم اشتراط جزء من الليل إلا ما صد عنه الإجماع من أن الوقوف قبل الزوال لا يجزي ، وأن من أفاض نهارا لا شيء عليه . ومن ، في قوله " من عرفات " لابتداء الغاية ، وهي تتعلق بـ " أفضتم " ، وظاهر هذا اللفظ يقتضي عموم عرفات [ ص: 96 ] فمن أي نواحيها أفاض أجزأه ، ويقتضي ذلك جواز الوقوف ، بأي نواحيها وقف ، والجمهور على أن عرنة من عرفات . وحكى الباجي ، عن ابن حبيب أن عرنة في الحل ، وعرنة في الحرم ، وقيل : الجدار الغربي من مسجد عرنة ، لو سقط سقط في بطن عرنة ، ومن قال : بطن عرنة من عرفات ، فلو وقف بها . فروي عن ، ابن عباس والقاسم ، وسالم أنه : من أفاض من عرنة لا حج له ، وذكره ابن المنذر عن ، الشافعي وأبو المصعب عن مالك ، وروى خالد بن نوار عن مالك أن حجه تام . ويهريق دما ، وذكره ابن المنذر عن مالك أيضا . وروى : " عرفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن عرنة " ، وأكثر الآثار ليس فيها هذا الاستثناء ، فهي كظاهر الآية . وكيفية الإفاضة أن يسيروا سيرا جميلا ، ولا يطئوا ضعيفا ، ولا يؤذوا ماشيا ، إذ كان - صلى الله عليه وسلم - إذا دفع من ئ عرفات أعنق ، وإذا وجد فرجة نص . والعنق : سير سريع مع رفق ، والنص : سير شديد فوق العنق ، قاله ، الأصمعي . ولو تأخر الإمام من غير عذر دفع الناس . والتعريف الذي يصنعه الناس في المساجد تشبيها بأهل والنضر بن شميل عرفة غير مشروع ، فقال بعض أهل العلم : هو ليس بشيء ، وأول من عرف ابن عباس بالبصرة ، وعرف أيضا ، وقال عمرو بن حريث أحمد : أرجو أن لا يكون به بأس ، وقد فعله غير واحد ، الحسن ، وبكر ، وثابت ، ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة .
وأما الصوم يوم عرفة للواقفين بها ، فقال : يجب عليهم الفطر ، وأجازه بعضهم ، وصامه يحيى بن سعيد الأنصاري عثمان بن القاضي ، وابن الزبير ، وعائشة . وقال عطاء : أصومه في الشتاء ولا أصومه في الصيف ، والجمهور على أن ترك الصوم أولى ؛ اتباعا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم .