وهل يصليهما بإقامتين دون أذان ؟ أو بأذان واحد للمغرب وإقامتين ؟ أو بأذانين وإقامتين ؟ أو بأذان وإقامة للأولى ، وبلا أذان ولا إقامة للثانية ؟ أقوال أربعة .
الأول : قول سالم ، والقاسم ، ، والشافعي وإسحاق ، وأحمد في أحد قوليه . والثاني : قول زفر ، ، والطحاوي ، وروي عن وابن حزم أبي حنيفة . والثالث : قول مالك . والرابع : قول أبي حنيفة ، والسنة أن لا يتطوع الجامع بينهما .
والمشعر مفعل من شعر ، أي : المعلم ، والحرام : لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما نهي عنه من محظورات الإحرام . وهذا المشعر يسمى جمعا ، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى عرفة إلى بطن محسر ، قاله ، ابن عباس ، وابن عمر ، وابن جبير ومجاهد . وتسمي العرب وادي محسر : وادي النار ، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام ، والمأزم المضيق ، وهو مضيق واحد بين جبلين ، ثنوه لمكان الجبلين . وقيل : المشعر الحرام هو قزح ، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة . قيل : وهو الصحيح لحديث جابر : بالمزدلفة ، بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام ، فدعا وكبر وهلل ، ولم يزل واقفا حتى أسفر ، فعلى هذا لم تتعرض الآية المذكورة للذكر [ ص: 97 ] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى الفجر ، يعني بالمزدلفة ، لا على أنه الدعاء ولا الصلاة بها ، وإنما هذا أمر بالذكر عند هذا الجبل ، وهو قزح الذي ركب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا عنده وكبر وهلل ، ووقف بعد صلاته الصبح بالمزدلفة بغلس حتى أسفر ، ويكون ثم جملة محذوفة التقدير : فإذا أفضتم من عرفات ، ونمتم بالمزدلفة ، فاذكروا الله عند المشعر الحرام . ومعنى العندية هنا القرب منه ، وكونه يليه . ومزدلفة كلها موقف ، إلا وادي محسر ، وجعلت كلها موقفا لكونها في حكم المشعر ومتصلة به ، وقيل : سميت المزدلفة وما تضمنه الحد الذي ذكر مشعرا ، ووحد لاستوائه في الحكم ، فكان كالمكان الواحد . وقال في ( المنتخب ) : هذا الأمر يدل على أن الحصول عند المشعر الحرام واجب ، ويكفي فيه المرور كما في عرفة ، فأما الوقوف هناك فمسنون ، انتهى كلامه . وكون الوقوف مسنونا هو قول جمهور العلماء ، وقال أبو حنيفة : هو واجب ، فمن تركه من غير عذر فعليه دم ، فإن كان له عذر أو خاف الزحام فلا بأس أن يعجل بليل ، ولا شيء عليه . وقال ابن الزبير ، والحسن ، وعلقمة ، ، والشعبي والنخعي ، : الوقوف والأوزاعي بمزدلفة فرض ، ومن فاته فقد فاته الحج ، ويجعل إحرامه عمرة .
والآية لا تدل إلا على مطلوبية الذكر عند المشعر الحرام ، لا على الوقوف ، ولا على المبيت بمزدلفة ، وأجمعوا على أن المبيت ليس بركن . وقال مالك : من لم يبت بها فعليه دم ، وإن أقام بها أكثر ليلة فلا شيء عليه : لأن المبيت بها سنة مؤكدة عند مالك . وهو مذهب عطاء ، وقتادة ، ، والزهري ، والثوري وأبي حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، . وقال وأبي ثور : إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه ، أو قبله افتدى ، والفدية شاة . ومطلق الأمر بالذكر لا يدل على ذكر مخصوص . قال بعضهم : وأولى الذكر أن يقول اللهم كما وفقتنا فيه فوفقنا لذكرك كما هديتنا ، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق : ( الشافعي فإذا أفضتم ) ، ويتلو إلى قوله : ( إن الله غفور رحيم ) ، ثم بعد ذلك يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة . والذي يظهر أن ذكر الله هنا هو الثناء عليه ، والحمد له ، ولا يراد بذكر الله هنا ذكر لفظة الله ، وإنما المعنى : اذكروا الله بالألفاظ الدالة على تعظيمه ، والثناء عليه ، والمحمدة له . و " عند " منصوب بـ " اذكروا " ، وهذا مما يدل على أن جواب " إذا " لا يكون عاملا فيها : لأن مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر : لأن ذلك عرفات ، وهذا المشعر الحرام ، وإذا اختلف المكانان لزم من ذلك ضرورة اختلاف الزمانين ، فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعا وقت إنشاء الإفاضة .
( واذكروه كما هداكم ) هذا الأمر الثاني هو الأول ، وكرر على سبيل التوكيد والمبالغة في الأمر بالذكر : لأن الذكر من أفضل العبادات ، أو غير الأول ، فيراد به تعلقه بتوحيد الله ، أي : واذكروه بتوحيده كما هداكم بهدايته ، أو اتصال الذكر لمعنى : اذكروه ذكرا بعد ذكر ، قال هذا القول محمد بن قاسم النحوي ، والذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع ، ويراد بالأول صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة ، حكاه القاضي أبو يعلى . والكاف في " كما " للتشبيه ، وهي في موضع نصب إما على النعت لمصدر محذوف ، وإما على الحال . وقد تقدم هذا البحث في غير موضع . والمعنى : أوجدوا الذكر على أحسن أحواله من مماثلته لهداية الله لكم ، إذ هدايته إياكم أحسن ما أسدى إليكم من النعم ، فليكن الذكر من الحضور والديمومة في الغاية حتى تماثل إحسان الهداية ، ولهذا المعنى قال : اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة ، انتهى . ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل على مذهب من أثبت هذا المعنى للكاف ، فيكون التقدير : كما هداكم ، أي : اذكروه وعظموه للهداية السابقة منه تعالى لكم ، وحكى الزمخشري : كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه ، أي : لأنه لا يعلم ، وأثبت لها هذا المعنى سيبويه الأخفش ، وابن برهان . و " ما " في " كما " مصدرية ، أي : كهدايته إياكم ، وجوز ، الزمخشري وابن عطية أن تكون " ما " كافة للكاف عن العمل ، والفرق بينهما أن " ما " المصدرية [ ص: 98 ] تكون هي وما بعدها في موضع جر ، إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر ، والكاف لا يكون ذلك فيها إذ لا عمل لها البتة ، والأولى حملها على أن " ما " مصدرية : لإقرار الكاف على ما استقر لها من عمل الجر ، وقد منع أن تكون الكاف مكفوفة بـ " ما " عن العمل أبو سعد ، وعلي بن مسعود بن الفرخال صاحب ( المستوفي ) ، واحتج من أثبت ذلك بقول الشاعر :
لعمرك إنني وأبا حميد كما النشوان والرجل الحليم أريد هجاءه وأخاف ربي
وأعلم أنه عبد لئيم
والهداية هنا خاصة ، أي : بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم - صلى الله على نبينا وعليه - فـ " ما " عامة تتناول أنواع الهدايات من معرفة الله ، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه .
( وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) ، " إن " هنا عند البصريين هي التي للتوكيد المخففة من الثقيلة ، ودخلت على الفعل الناسخ كما دخلت على الجملة الابتدائية ، واللام في " لمن " ، وما أشبهه فيها خلاف : أهي لام الابتداء لزمت للفرق ؟ أم هي لام أخرى اجتلبت للفرق ؟ ومذهب الفراء في نحو هذا : " إن " هي النافية بمعنى ما ، واللام بمعنى إلا ، وذهب إلى أن إن بمعنى : قد ، إذا دخل على الجملة الفعلية ، وتكون اللام زائدة ، وبمعنى ما النافية إذا دخل على الجملة الاسمية ، واللام بمعنى إلا ، ودلائل هذه المسألة تذكر في علم النحو . فعلى قول الكسائي البصريين : تكون هذه الجملة مثبتة مؤكدة لا حصر فيها ، وعلى مذهب الفراء : مثبتة إثباتا محصورا ، وعلى مذهب : مثبتة مؤكدة من جهة غير جهة قول الكسائي البصريين . و " من قبله " يتعلق بمحذوف ، ويبينه قوله لمن الضالين ، التقدير : وإن كنتم ضالين من قبله لمن الضالين ، ومن تسمح من النحويين في تقديم الظرف والمجرور على العامل الواقع صلة للألف واللام ، فيتعلق على مذهبه من قبله بقوله من الضالين ، وقد تقدم نظير هذا . والهاء في " قبله " عائدة على الهدى المفهوم من قوله " هداكم " أي : وإن كنتم من قبل الهدى لمن الضالين ، ذكرهم تعالى بنعمة الهداية التي هي أتم النعم : ليوالوا ذكره والثناء عليه تعالى والشكر الذي هو سبب لمزيد الإنعام ، وقيل : تعود الهاء على القرآن ، وقيل : على النبي - صلى الله عليه وسلم . والظاهر في الضلال أنه ضلال الكفر ، كما أن الظاهر في الهداية هداية الإيمان ، وقيل : من الضالين عن مناسك الحج ، أو عن تفصيل شعائره .