( هدى للناس وبينات ) انتصاب : هدى على الحال ، وهو مصدر وضع موضع اسم الفاعل ، أي : هاديا للناس ، فيكون " للناس " متعلقا بلفظ " هدى " لما وقع موقع هاد ، وذو الحال القرآن ، والعامل " أنزل " وهي حال لازمة : لأن كون القرآن هدى هو لازم له ، وعطف قوله " وبينات " على " هدى " فهو حال أيضا ، وهي لازمة : لأن كون القرآن آيات جليات واضحات وصف ثابت له ، وهو من عطف الخاص على العام : لأن الهدى منه خفي ومنه جلي ، فنص بالبينات على الجلي من الهدى : لأن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، فذكر عليه أشرف أنواعه ، وهو الذي يتبين الحلال والحرام والموعظة .
( من الهدى والفرقان ) هذا في موضع الصفة لقوله : هدى وبينات ، أي : أن كون القرآن هدى وبينات هو من جملة هدى الله وبيناته ، والهدى والفرقان يشمل الكتب الإلهية ، فهذا القرآن بعضها ، وعبر عن البينات بالفرقان ، ولم يأت من الهدى والبينات فيطابق العجز الصدر : لأن فيه مزيد معنى لازم للبينات ، وهو كونه يفرق به بين الحق والباطل ، فمتى كان الشيء جليا واضحا حصل به الفرق : ولأن في لفظ " الفرقان " مؤاخاة للفاصلة قبله ، وهو قوله : ( شهر رمضان ) ، ثم قال : ( الذي أنزل فيه القرآن ) ، ثم قال : ( هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) ، فحصل بذلك تواخي هذه الفواصل ، فصار الفرقان هنا أمكن من البينات من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، كما قررناه .
ولا يظهر هنا ما قاله بعض الناس من أن الهدى والفرقان أريد به القرآن : لأن الشيء لا يكون بعض نفسه ، وفي ( المنتخب ) أنه يحتمل أن يحمل : هدى الأول على أصول الدين ، والثاني على فروعه .
وقال ابن عطية : اللام في الهدى للعهد ، والمراد الأول ، انتهى كلامه . يعني : أنه أتى به منكرا أولا ، ثم أتى به معرفا ثانيا ، فدل على أنه الأول كقوله تعالى : ( كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ) ، فمعلوم أن الرسول الذي عصاه فرعون هو الرسول الذي أرسل إليه ، ومن ذلك قولهم : لقيت رجلا فضربت الرجل ، فالمضروب هو الملقي ، ويعتبر ذلك بجعل ضمير النكرة مكان ذلك هذا الثاني ، فيصح المعنى : لأنه لو أتى فعصاه فرعون ، أو : لقيت رجلا فضربته ، لكان كلاما صحيحا ، ولا يتأتى هذا الذي قاله ابن عطية هنا : لأنه ذكر هو والمعربون : أن هدى منصوب على الحال وصف في ذي الحال ، وعطف عليه وبينات ، فلا يخلو قوله " من الهدى " المراد به الهدى الأول من أن يكون صفة لقوله " هدى " أو لقوله " وبينات " أو لهما ، أو متعلقا بلفظ بينات ، لا جائز أن يكون صفة لهدى : لأنه من حيث هو وصف لزم أن يكون بعضا ، ومن حيث هو الأول لزم أن يكون هو إياه ، والشيء الواحد لا يكون بعضا كلا بالنسبة لماهيته ، ولا جائز أن يكون صفة لبينات فقط : لأن " وبينات " معطوف على هدى ، وهدى حال ، والمعطوف على الحال حال ، والحال وصف في ذي الحال ، فمن حيث كونهما حالين تخصص بهما ذو الحال إذ هما وصفان ، ومن حيث وصفت " بينات " بقوله : من الهدى ، خصصها به ، فوقف تخصيص القرآن على قوله هدى وبينات معا ، ومن حيث جعلت " من الهدى " صفة [ ص: 41 ] لبينات توقف تخصيص بينات على هدى ، فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه ، وهو محال ، ولا جائز أن يتعلق بلفظ " وبينات " لأن المتعلق تقييد للمتعلق به ، فهو كالوصف ، فيمتنع من حيث يمتنع الوصف . وأيضا فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميرا ، فقلت : وبينات منه أي : من ذلك الهدى لم يصح ، فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامين حتى يكون هدى وبينات بعضا منهما .