مناسبة هذه الآية لما قبلها هو ما نبه عليه من أنه تعالى لما طلب الكفار أن ينزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - آية - وكم آية نزلت - أردف ذلك بذكر آيات [ ص: 369 ] علمه الباهر ، وقدرته النافذة ، وحكمته البليغة ، وأن ما نزل عليه من الآيات كافية لمن تبصر ، فلا يقترحون غيرها ، وأن نزول الآيات إنما هو على ما يقدره الله تعالى . وقيل : مناسبة ذلك أنه لما تقدم إنكارهم البعث لتفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض ، بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها ، نبه على إحاطة علمه ، وأن من كان عالما بجميع المعلومات هو قادر على إعادة ما أنشأ . وقيل : مناسبة ذلك أنهم لما استعجلوا بالسيئة نبه على علمه بجميع المعلومات ، وأنه إنما نزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة . قال الزمخشري ابن عطية : قص في هذا المثل المنبه على قدرة الله القاضية بتجويز البعث ، فمن ذلك الواحدة من الجنس التي هي مفاتيح الغيب ؛ يعني : التي لا يعلمها إلا هو ، وما تحمله الإناث من النطفة من كل نوع من الحيوان . وهذا البدء يبين أنه لا يتعذر على القادر عليها الإعادة ، و ( الله يعلم ) كلام مستأنف ؛ مبتدأ وخبر ، ومن فسر الهادي بالله جاز أن يكون ( الله ) خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : هو الله تعالى ، ثم ابتدأ إخبارا عنه فقال : ( يعلم ) . و ( يعلم ) هنا متعدية إلى واحد ؛ لأنه لا يراد هنا النسبة ، إنما المراد تعلق بالمفردات ، و ( ما ) جوزوا أن تكون بمعنى الذي ، والعائد عليها في صلاتها محذوف ، ويكون ( تغيض ) متعديا و ( أن ) تكون مصدرية ، فيكون " تغيض ، وتزداد " لازمان . وسماع تعديتهما ولزومهما ثابت من كلام العرب . و ( أن ) تكون استفهاما مبتدأ ، و ( تحمل ) خبره و ( يعلم ) متعلقه ، والجملة في موضع المفعول . و ( تحمل ) هنا من حمل البطن ، لا من الحمل على الظهر . وفي مصحف أبي : ( ما تحمل كل أنثى ) و " ما تضع ، وتحمل " على التفسير ؛ لأنها زيادة لم تثبت في سواد المصحف .
قال : ( تغيض ) تنقص من الخلقة ، و ( تزداد ) تتم . ابن عباس
وقال مجاهد : غيض الرحم أن ينهرق دما على الحمل ، فيضعف الولد في البطن ويسحب ، فإذا بقي الولد في بطنها بعد تسعة أشهر مدة كمل فيها من خمسة وصحبه ما نقص من هراقة الدم ، انتهى كلام . ابن عباس
وقال عكرمة : تغيض بطهور الحيض في الحبل ، وتزداد بدم النفاس بعد الوضع .
وقال قتادة : الغيض : السقط ، والزيادة : البقاء فوق تسعة أشهر . وقال الضحاك : غيض الرحم : أن تسقط المرأة الولد ، والزيادة : أن تضعه لمدة كاملة تامة . وعن الضحاك أيضا : الغيض : النقص من تسعة أشهر ، والزيادة : إلى سنتين . وقيل : من عدد الأولاد ، فقد تحمل واحدا ، وقد تحمل أكثر . وقال الجمهور : غيض الرحم : الدم على الحمل . قال : إن كانت " ما " موصولة فالمعنى : أن يعلم ما تحمل من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة ، وتمام وخدج ، وحسن وقبح ، وطول وقصر وغير ذلك من الأحوال الحاضرة المترقية . ويعلم ما تغيضه الأرحام ؛ تنقصه ، و ( ما تزداد ) أي : تأخذه زائدا ، تقول : أخذت منه حقي وازددت منه كذا ، ومنه : ( الزمخشري وازدادوا تسعا ) ويقال : زدته فزاد بنفسه وازداد . وما تنقصه الرحم وتزداد عدد الولد ، فإنها تشتمل على واحد ، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة . ويروى أن شريكا كان رابع أربعة في بطن أمه . ومنه جسد الولد ، فإنه يكون تاما ومخدجا ، ومنه مدة ولادته فإنها تكون أقل من تسعة أشهر ، فما زاد عليها إلى سنة عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند ، وإلى خمس عند الشافعي مالك . وقيل : إن الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حبان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرما ، ومنه الدم فإنه يقل ويكثر . وإن كانت مصدرية فالمعنى : أنه يعلم حمل كل أنثى ، ويعلم غيض الأرحام وازديادها ، فلا يخفى عليه شيء من ذلك من أوقاته وأحواله . ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته ، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها ، على أن الفعل غير متعد ويعضده قول الحسن : الغيضوضة أن يقع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك ، والازدياد أن يزيد على تسعة أشهر . وعنه : الغيض الذي يكون سقطا لغير تمام ، والازدياد ولد التمام ، انتهى . وهو جمع ما قاله المفسرون مفرقا . وبمقدار يقدر ، ويطلق المقدار على القدر ، وعلى ما يقدر به الشيء . والظاهر عموم قوله : ( وكل شيء [ ص: 370 ] عنده بمقدار ) أي : بحد لا يتجاوزه ولا يقتصر عنه . وقال : وكل شيء من الثواب والعقاب عنده بمقدار ؛ أي : بقدر الطاعة والمعصية . وقال ابن عباس الضحاك : من الغيض والازدياد . وقال قتادة : من الرزق والأجل . وقيل : صحة الجنين ومرضه ، وموته ، وحياته ، ورزقه ، وأجله .
والأحسن حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التخصيص ؛ لأنه لا دليل عليه .
والمراد من العندية العلم أي : هو تعالى عالم بكمية كل شيء ، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات . وقيل المراد بالعندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقته بعينه ، وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية . ولما ذكر أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو ، وكانت أشياء جزئية من خفايا علمه ، ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء ، فعلمه تعالى متعلق بما يشاهده العالم تعلقه بما يغيب عنهم . وقيل : الغائب المعدوم ، والشاهد الموجود . وقيل : الغائب ما غاب عن الحس ، والشاهد ما حضر للحس . وقرأ : ( زيد بن علي عالم الغيب ) بالنصب ، ( الكبير ) العظيم الشأن الذي كل شيء دونه ، ( المتعال ) المستعلي على كل شيء بقدرته ، أو الذي كبر عن صفات المحدثين وتعالى عنها . وأثبت ابن كثير وأبو عمر في رواية ياء المتعال وقفا ووصلا ، وهو الكثير في لسان العرب ، وحذفها الباقون وصلا ووقفا ؛ لأنها كذلك رسمت في الخط . واستشهد بحذفها في الفواصل ومن القوافي ، وأجاز غيره حذفها مطلقا . ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين ، وإن تعاقب التنوين ، فحذفت مع المعاقب إجراء له مجرى المعاقب . ولما ذكر أنه تعالى عالم الغيب والشهادة على العموم ، ذكر تعالى تعلق علمه بشيء خاص من أحوال المكلفين ، فقال : ( سيبويه سواء منكم ) الآية . والمعنى : سواء في علمه المسر القول ، والجاهر به لا يخفى عليه شيء من أقواله . و ( سواء ) تقدم الكلام فيه وفي معانيه ، وهو هنا بمعنى مستو ، وهو لا يثنى في أشهر اللغات . وحكى أبو زيد تثنيته فتقول : هما سواآن . وقيل : هو على حذف ؛ أي : سواء منكم سر من أسر القول ، وجهر من جهر به ، وأعربوا ( سواء ) خبر مبتدأ أو من أسر ، والمعطوف عليه مبتدأ . ويجوز أن يكون ( سواء ) مبتدأ ؛ لأنه موصوف بقوله : منكم ، و ( من ) المعطوف الخبر . وكذا أعرب قول العرب : سواء عليه الخير والشر . وقول سيبويه ابن عطية : إن ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة ، وهو لا يصح . سيبويه
وقال : ( مستخف ) مستتر ، و ( سارب ) ظاهر . وقال ابن عباس مجاهد : مستخف بالمعاصي . وتفسير الأخفش وقطرب : المستخفي هنا بالظاهر ، وإن كان موجودا في اللغة ينبو عنه اقترانه بالليل ، واقتران السارب بالنهار . وتقابل الوصفان في قوله : ( ومن هو مستخف ) إذ قابل ( من أسر القول ) وفي قوله : ( سارب بالنهار ) إذ قابل ( ومن جهر به ) والمعنى - والله أعلم - إنه تعالى محيط علمه بأقوال المكلفين وأفعالهم ، لا يعزب عنه شيء من ذلك . وظاهر التقسيم يقتضي تكرار " من " لكنه حذف للعلم به ، إذ تقدم قوله : ( من أسر القول ومن جهر به ) لكن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين ، وأجازه الكوفيون . ويجوز أن يكون : ( وسارب ) معطوفا على ( من ) لا على ( مستخف ) فيصح التقسيم . كأنه قيل : سواء شخص هو مستخف بالليل ، وشخص هو سارب بالنهار . ويجوز أن يكون معطوفا على ( مستخف ) . وأريد بـ ( من ) اثنان ، وحمل على المعنى في تقسيم خبر المبتدأ الذي هو هو ، وعلى لفظ " من " في إفراد " هو " . والمعنى : سواء اللذان هما مستخف بالليل والسارب بالنهار ، هو رجل واحد يستخفي بالليل ويسرب بالنهار ، وليرى تصرفه في الناس . قال ابن عطية : فهذا قسم واحد ، جعل الله نهار راحته . والمعنى : هذا والذي أمره كله واحد بريء من الريب ، سواء في اطلاع الله تعالى على الكل . ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار " من " ولا يأتي حذفها إلا في الشعر . وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف . فالذي يسر طرف ، والذي يجهر طرف [ ص: 371 ] مضاد للأول ، والثالث متوسط متلون يعصي بالليل مستخفيا ويظهر البراءة بالنهار ، انتهى . وقيل : ومن هو مستخف بالليل بظلمته ، يريد إخفاء عمله فيه كما قال : أزورهم وسواد الليل يشفع لي . وقال :
وكم لظلام الليل عندي من يد
والظاهر عود الضمير في " له " على " من " كأنه قيل لمن أسر ، ومن جهر ، ومن استخفى ، ومن سرب معقبات . وقال : هو عائد على من قوله : ( ابن عباس ومن هو مستخف ) وكذلك في باقي الضمائر التي في الآية .قال ابن عطية : والمعقبات على هذا حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه ، قال : والآية على هذا في الرؤساء الكافرين . واختار هذا القول ، وهو قول الطبري عكرمة وجماعة . وقال الضحاك : هو السلطان المحرس من أمر الله وذكر الماوردي أن الكلام على هذا التأويل نفى تقريره ( لا يحفظونه من أمر الله ) انتهى . وحذف " لا " لا في الجواب قسم بعيد . قال المهدوي : ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى : يحفظونه من الله على ظنه وزعمه . وقيل : الضمير في " له " عائد على الله تعالى ؛ أي : لله معقبات ملائكة من بين يدي العبد ومن خلفه ، والمعقبات على هذا : الملائكة الحفظة على العباد وأعمالهم ، والحفظة لهم أيضا . وروي فيه حديث عن عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قول مجاهد والنخعي . وقيل : الضمير في " له " عائد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يجر له ذكر قريب ، وقد جرى ذكره في قوله : ( ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه ) والمعنى : أن الله تعالى جعل لنبيه حفظة من متمردي الجن والإنس . قال أبو زيد : الآية في النبي - صلى الله عليه وسلم - نزلت في حفظ الله له من أربد بن قيس ، وعامر بن الطفيل ، من القصة التي سنشير إليها بعد في ذكر الصواعق . والقول الأول في عود الضمير هو الأولى الذي ينبغي أن يحمل عليه وعليه يفسر . ويقول : لما تقدم أن من أسر القول ومن جهر به ، ومن استخفى بالليل وسرب بالنهار ، مستو في علم الله تعالى لا يخفى عليه من أحوالهم شيء ، ذكر أيضا أن لذلك المذكور معقبات : جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته . ومعقب : وزنه مفعل ، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر ، لأن بعضهم يعقب بعضا ، أو لأنهم يعقبون ما يتكلمون به فيكتبونه . وقال : والأصل معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف كقوله : ( الزمخشري وجاء المعذرون ) يعني المعتذرون . ويجوز ( معقبات ) بكسر العين ، ولم يقرأ به ، انتهى . وهذا وهم فاحش ، لا تدغم التاء في القاف ، ولا القاف في التاء ، لا من كلمة ولا من كلمتين . وقد نص التصريفيون على أن القاف والكاف يدغم كل منهما في الآخر ، ولا يدغمان في غيرهما ، ولا يدغم غيرهما فيهما . وأما تشبيهه بقوله : ( وجاء المعذرون ) فلا يتعين أن يكون أصله " المعتذرون " ، وقد تقدم في ( براءة ) توجيهه ، وأنه لا يتعين ذلك فيه . وأما قوله : ويجوز " معقبات " بكسر العين ، فهذا لا يجوز لأنه بناه على أن أصله معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف . وقد ذكرنا أن ذلك وهم فاحش ، والمعقبات جمع معقبة . وقيل : الهاء في معقبة للمبالغة ، فيكون كرجل نسابة . وقيل : جمع معقبة ، وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى ، جمعت باعتبار كثرة الجماعات ، ومعقبة ليست جمع معقب كما ذكر . وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات ، وليس الأمر كما ذكر ؛ لأن ذلك كجمل وجمال وجمالات ، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضارب وضاربات قاله : الطبري ابن عطية . وينبغي أن يتأول كلام على أنه أراد بقوله : جمع معقب ، أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب ، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب ، وصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون ، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد ، من حيث أن يجمع جموع التكسير للعامل يجوز أن يعامل معاملة المفردة المؤنثة في الأخبار ، وفي عود الضمير لقوله : العلماء قائلة كذا ، وقولهم الرجال وأعضادها ، وتشبيه الطبري ذلك برجل ورجالات من حيث المعنى ، لا من حيث [ ص: 372 ] صناعة النحويين ، فبين أن معقبة من حيث أريد به الجمع كرجال من حيث وضع للجمع ، وأن معقبات من حيث استعمل جمعا لمعقبة المستعمل للجمع كرجالات الذي هو جمع رجال . وقرأ الطبري عبيد بن زياد على المنبر له ( المعاقب ) وهي قراءة أبي وإبراهيم . وقال : وقرئ ( له معاقيب ) . قال الزمخشري أبو الفتح : هو تكسير معقب بسكون العين وكسر القاف ، كمطعم ومطاعم ، ومقدم ومقاديم ، وكان معقبا جمع على معاقبة ، ثم جعلت الياء في معاقيب عوضا من الهاء المحذوفة في معاقبة . وقال : جمع معقب أو معقبة ، والياء عوض من حذف أحد القافين في التكسير . وقرئ له ( معتقبات ) من اعتقب . وقرأ الزمخشري أبي من بين يديه ، ورقيب من خلفه . وقرأ : ورقباء من خلفه ، وذكر عنه ابن عباس أبو حاتم أنه قرأ ( معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه ) . وينبغي حمل هذه القرآت على التفسير ، لا أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون . والظاهر أن قوله تعالى : ( من أمر الله ) متعلق بقوله : ( يحفظونه ) . قيل : ( من ) للسبب كقولك : كسرته من عرى ، ويكون معناها ومعنى الباء سواء ، كأنه قيل : يحفظونه بأمر الله وبإذنه ، فحفظهم إياه متسبب عن أمر الله لهم بذلك . قال : يحفظون عليه عمله ، فحذف المضاف . وقال ابن جريج قتادة : يكتبون أقواله وأفعاله . وقراءة علي وابن عباس وعكرمة وزيد بن علي وجعفر بن محمد : ( يحفظونه بأمر الله ) ، يؤيد تأويل السببية في ( من ) وفي هذا التأويل . قال : يحفظونه من أجل أمر الله تعالى ؛ أي : من أجل أن الله تعالى أمرهم بحفظه . وقال الزمخشري ابن عطية ، وقتادة : معنى من أمر الله ، بأمر الله أي : يحفظونه بما أمر الله ، وهذا تحكم في التأويل ، انتهى . وليس بتحكم ، وورود " من " للسبب ثابت من لسان العرب . وقيل : يحفظونه من بأس الله ونقمته ، كقولك : حرست زيدا من الأسد ، ومعنى ذلك : إذا أذن الله لهم في دعائهم أن يمهله رجاء أن يتوب عليه وينيب كقوله تعالى : ( قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن ) يصير معنى الكلام إلى التضمين أي : يدعون له بالحفظ من نقمات الله رجاء توبته . ومن جعل المعقبات الحرس ، وجعلها في رؤساء الكفار فيحفظونه معناه : في زعمه وتوهمه من هلاك الله ، ويدعون قضاءه في ظنه ، وذلك لجهالته بالله تعالى ، أو يكون ذلك على معنى التهكم به ، وحقيقة التهكم هو أن يخبر بشيء ظاهره مثلا الثبوت في ذلك الوصف ، وفي الحقيقة هو منتصف ، ولذلك حمل بعضهم ( يحفظونه ) على أنه مراد به : لا يحفظونه ، فحذف ( لا ) . وعلى هذا التأويل في " من " تكون متعلقة - كما ذكرنا - بيحفظونه ، وهي في موضع نصب . وقال الفراء وجماعة : في الكلام تقديم وتأخير أي : له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه . وروي هذا عن مجاهد ، والنخعي ، ، فيكون من أمر الله في موضع رفع ؛ لأنه صفة لمرفوع ، ويتعلق إذ ذاك بمحذوف أي : كائنة من أمر الله تعالى ، ولا يحتاج في هذا المعنى إلى تقدير تقديم وتأخير ، بل وصفت المعقبات بثلاث صفات في الظاهر : أحدها : من بين يديه ومن خلفه أي : كائنة من بين يديه . والثانية : يحفظونه ؛ أي : حافظات له . والثالثة : كونها من أمر الله ، وإن جعلنا من بين يديه ومن خلفه يتعلق بقوله : ( يحفظونه ) فيكون إذ ذاك معقبات وصفت بصفتين : إحداهما : يحفظونه من بين يديه ومن خلفه . والثانية : قوله : ( وابن جريج من أمر الله ) أي : كائنة من أمر الله . غاية ما في ذلك أنه بدئ بالوصف بالجملة قبل الوصف بالجار والمجرور ، وذلك شائع فصيح ، وكان الوصف بالجملة الدالة على الديمومة ، في الحفظ آكد ، فلذلك قدم الوصف بها . وذكر أبو عبد الله الرازي في الملائكة الموكلين علينا ، وفي الكتبة منهم أقوالا عن المنجمين وأصحاب الطلمسات ، وناس سماهم حكماء الإسلام يوقف على ذلك من تفسيره . ولما ذكر تعالى إحاطة علمه بخفايا الأشياء وجلاياها ، وأن الملائكة تعقب على المكلفين لضبط ما يصدر منهم ، وإن كان الصادر منهم [ ص: 373 ] خيرا وشرا ، ذكر تعالى أن ما خولهم فيه من النعم وأسبغ عليهم من الإحسان لا يزيله عنهم إلى الانتقام منهم إلا بكفر تلك النعم ، وإهمال أمره بالطاعة ، واستبدالها بالمعصية . فكان في ذكر ذلك تنبيه على لزوم الطاعة ، وتحذير لوبال المعصية . والظاهر أن لا يقع تغير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي . قال ابن عطية : وهذا الموضع مئول ؛ لأنه صح الخبر بما قدرت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة وبالعكس ، ومنه قوله تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن ) الآية ، وسؤالهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : " " فمعنى الآية : حتى يقع تغيير إما منهم ، وإما من الناظر لهم ، أو ممن هو منهم تسبب ، كما غير الله تعالى المنهزمين يوم نعم إذا كثر الخبث في أشياء كثيرة أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم ، إلى غير هذا في أمثله الشريعة . فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب ، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير . وثم أيضا مصائب يزيد الله بها أجر المصاب ، فتلك ليست تغييرا ، انتهى . وفي الحديث : " " وقيل : هذا يرجع إلى قوله : ( إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة ) فبين تعالى أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعاصي ، إلا أن علم الله تعالى أن فيهم أو في عقبهم من يؤمن ، فإنه تعالى لا ينزل بهم عذاب الاستئصال . و " ما " موصولة صلتها ( بقوم ) ، وكذا ( ما بأنفسهم ) . وفي " ما " إبهام لا يتغير المراد منها إلا بسياق الكلام واعتقاد محذوف يتبين به المعنى ، والتقدير : لا يغير ما بقوم من نعمة وخير إلى ضد ذلك حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعته إلى توالي معصيته . والسوء يجمع كل ما يسوء من مرض وخير وعذاب ، وغير ذلك من البلاء . ولما كان سياق الكلام في الانتقام من العصاة اقتصر على قوله : ( سوءا ) ، وإلا فالسوء والخير إذا أراد الله تعالى شيئا منها فلا مرد له ، فذكر السوء مبالغة في التخويف ، وقال : ( السدي من وال ) من ملجئ . وقال : ممن يلي أمرهم ، ويدفع عنهم . الزمخشري
وقيل : من ناصر يمنع من عذابه .