هذا جواب الملائكة عن قول الله لهم إني جاعل في الأرض خليفة فالتقدير : فقالوا على وزان قوله وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا ، وفصل الجواب ولم يعطف بالفاء أو الواو جريا به على طريقة متبعة في القرآن في حكاية المحاورات وهي طريقة عربية قال زهير :
قيل لهم ألا اركبوا ألاتا قالوا جميعا كلهم آلافا
أي فاركبوا ولم يقل فقالوا . وقال : رؤبة بن العجاجقالت بنات العم يا سلمى وإن كان فقيرا معدما قالت وإن
وعبر بالموصول وصلته للإيماء إلى وجه بناء الكلام وهو الاستفهام والتعجب لأن من كان من شأنه الفساد والسفك لا يصلح للتعمير لأنه إذا عمر نقض ما عمره . وعطف سفك الدماء على الإفساد للاهتمام به . وتكرير ضمير الأرض للاهتمام بها والتذكير بشأن عمرانها وحفظ نظامها ليكون ذلك أدخل في التعجب من استخلاف آدم وفي صرف إرادة الله تعالى عن ذلك إن كان في الاستشارة ائتمار .
والإفساد تقدم في قوله تعالى ألا إنهم هم المفسدون والسفك الإراقة وقد غلب في كلامهم تعديته إلى الدماء ، وأما إراقة غير الدم فهي سفح بالحاء . وفي المجيء بالصلة جملة فعلية دلالة على توقع أن يتكرر الإفساد والسفك من هذا المخلوق وإنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما استشعروه من صفات هذا المخلوق المستخلف بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه الجسدية والعقلية والنطقية إما بوصف الله لهم هذا الخليفة أو برؤيتهم صورة تركيبه قبل نفخ الروح فيه وبعده ، والأظهر أنهم رأوه بعد نفخ الروح فيه فعلموا أنه تركيب يستطيع صاحبه أن يخرج عن الجبلة إلى الاكتساب ، وعن الامتثال إلى العصيان ، فإن العقل يشتمل على شاهية وغاضبة وعاقلة ومن مجموعها ومجموع بعضها تحصل تراكيب من التفكير نافعة وضارة ، ثم إن القدرة التي في الجوارح تستطيع تنفيذ كل ما يخطر للعقل وقواه أن يفعله ، ثم إن النطق يستطيع إظهار خلاف الواقع وترويج الباطل ، فيكون من أحوال ذلك فساد كبير ومن أحواله أيضا صلاح عظيم ، وإن طبيعة استخدام ذي القوة لقواه قاضية بأنه سيأتي بكل ما تصلح له هذه القوى خيرها وشرها ، فيحصل فعل مختلط من [ ص: 403 ] صالح وسيئ ، ومجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات على نحو ما سيظهر منها في الخارج ؛ لأن مداركهم غاية في السمو لسلامتها من كدرات المادة ، وإذا كان أفراد البشر يتفاوتون في الشعور بالخفيات ، وفي توجه نورانية النفوس إلى المعلومات ، وفي التوسم والتفرس في الذوات بمقدار تفاوتهم في صفات النفس جبلية واكتسابية ولدنية التي أعلاها النبوة ، فما ظنك بالنفوس الملكية البحتة .
وفي هذا ما يغنيك عما تكلف له بعض المفسرين من وجه من توقيف واطلاع على ما في اللوح أي علم الله ، أو قياس على أمة تقدمت وانقرضت ، أو قياس على الوحوش المفترسة إذ كانت قد وجدت على الأرض قبل خلق اطلاع الملائكة على صفات الإنسان قبل بدوها منه آدم كما في سفر التكوين من التوراة . وبه أيضا تعلم أن حكم الملائكة هذا على ما يتوقع هذا الخلق من البشر لم يلاحظ فيه واحد دون آخر ، لأنه حكم عليهم قبل صدور الأفعال منهم ، وإنما هو حكم بما يصلحون له بالقوة ، فلا يدل ذلك على أن حكمهم هذا على بني آدم دون آدم حيث لم يفسد ، لأن في هذا القول غفلة عما ذكرناه من البيان .
وأوثر التعبير بالفعل المضارع في قوله من يفسد ويسفك لأن المضارع يدل على التجدد والحدوث دون الدوام أي من يحصل منه الفساد تارة وسفك الدماء تارة لأن الفساد والسفك ليسا بمستمرين من البشر .
وقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها دليل على أنهم علموا أن وإلا لما كان للاستفهام المشوب بالتعجب موقع ، وهم علموا مراد الله ذلك من تلقيهم عنه سبحانه أو من مقتضى حقيقة الخلافة أو من قرائن أحوال الاعتناء بخلق الأرض وما عليها على نظم تقتضي إرادة بقائها إلى أمد ، وقد دلت آيات كثيرة على أن إصلاح العالم مقصد للشارع قال تعالى مراد الله من خلق الأرض هو صلاحها وانتظام أمرها فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله وقال وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ولا يرد هنا أن هذا القول غيبة وهم منزهون عنها ؛ لأن ذلك العالم ليس عالم تكليف ولأنه لا غيبة في مشورة ونحوها كالخطبة والتجريح لتوقف المصلحة على ذكر ما في المستشار [ ص: 404 ] في شأنه من النقائص ، ورجحان تلك المصلحة على مفسدة ذكر أحد بما يكره ، ولأن الموصوف بذلك غير معين إذ الحكم على النوع ، فانتفى جميع ما يترتب على الغيبة من المفاسد في واقعة الحال فلذلك لم يحجم عنها الملائكة .