دلت الفاء على سرعة الإجابة بحصول المطلوب ، ودلت على أن . مناجاة العبد ربه بقلبه ضرب من ضروب الدعاء قابل للإجابة
و ( استجاب ) بمعنى أجاب عند جمهور أئمة اللغة ، فالسين والتاء للتأكيد ، مثل : استوقد واستخلص . وعن الفراء ، وعلي بن عيسى الربعي : أن استجاب أخص من أجاب لأن استجاب يقال لمن قبل ما دعي إليه ، وأجاب أعم ، فيقال لمن أجاب بالقبول وبالرد . وقال الراغب : الاستجابة هي التحري للجواب والتهيؤ له ، لكن عبر به عن الإجابة لقلة انفكاكها منها . ويقال : استجاب له واستجابه ، فعدي في الآية باللام ، كما قالوا : حمد له وشكر له ، ويعدى بنفسه أيضا مثلهما .
قال كعب بن سعد الغنوي ، يرثي قريبا له :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وتعبيرهم في دعائهم بوصف ربنا دون اسم الجلالة لما في وصف الربوبية من الدلالة على الشفقة بالمربوب ، ومحبة الخير له ، ومن الاعتراف بأنهم عبيده ولتتأتى الإضافة المفيدة التشريف والقرب ، ولرد حسن دعائهم بمثله بقولهم ربنا ، ربنا .[ ص: 203 ] ومعنى نفي إضاعة عملهم نفي إلغاء الجزاء عنه : جعله كالضائع غير الحاصل في يد صاحبه .
فنفي إضاعة العمل وعد بالاعتداد بعملهم وحسبانه لهم ، فقد تضمنت الاستجابة تحقيق عدم إضاعة العمل تطمينا لقلوبهم من وجل عدم القبول ، وفي هذا دليل على أنهم أرادوا من قولهم وآتنا ما وعدتنا على رسلك تحقيق قبول أعمالهم والاستعاذة من الحبط .
وقوله من ذكر أو أنثى بيان لعامل ووجه الحاجة إلى هذا البيان هنا أن الأعمال التي أتوا بها أكبرها الإيمان ، ثم الهجرة ، ثم الجهاد ، ولما كان الجهاد أكثر تكررا خيف أن يتوهم أن النساء لا حظ لهن في تحقيق الوعد الذي وعد الله على ألسنة رسله ، فدفع هذا بأن للنساء حظهن في ذلك فهن في الإيمان والهجرة يساوين الرجال ، وهن لهن حظهن في ثواب الجهاد لأنهن يقمن على المرضى ويداوين الكلمى ، ويسقين الجيش ، وذلك عمل عظيم به استبقاء نفوس المسلمين ، فهو لا يقصر عن القتال الذي به إتلاف نفوس عدو المؤمنين .
وقوله بعضكم من بعض ( من ) فيه اتصالية أي بعض المستجاب لهم متصل ببعض ، وهي كلمة تقولها العرب بمعنى أن شأنهم واحد وأمرهم سواء . قال تعالى المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر إلخ . وقولهم : هو مني وأنا منه ، وفي عكسه يقولون كما قال النابغة :
فإني لست منك ولست مني
وقد حملها جمهور المفسرين على معنى أن نساءكم ورجالكم يجمعهم أصل واحد ، وعلى هذا فموقع هذه الجملة موقع التعليل للتعميم في قوله من ذكر أو أنثى أي لأن شأنكم واحد . وكل قائم بما لو لم يقم به لضاعت مصلحة الآخر ، فلا جرم أن كانوا سواء في تحقيق وعد الله إياهم ، وإن اختلفت أعمالهم وهذا كقوله تعالى للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن .[ ص: 204 ] والأظهر عندي أن ليس هذا تعليلا لمضمون قوله من ذكر أو أنثى بل هو بيان للتساوي في الأخبار المتعلقة بضمائر المخاطبين أي أنتم في عنايتي بأعمالكم سواء ، وهو قضاء لحق ما لهم من الأعمال الصالحة المتساوين فيها ، ليكون تمهيدا لبساط تمييز المهاجرين بفضل الهجرة الآتي في قوله فالذين هاجروا ، الآيات .
وقوله فالذين هاجروا تفريع عن قوله لا أضيع عمل عامل وهو من ذكر الخاص بعد العام للاهتمام بذلك الخاص ، واشتمل على بيان ما تفاضلوا فيه من العمل ، وهو الهجرة التي فاز بها المهاجرون .
والمهاجرة : هي ترك الموطن بقصد استيطان غيره ، والمفاعلة فيها للتقوية كأنه هجر قومه وهجروه لأنهم لم يحرصوا على بقائه ، وهذا أصل المهاجرة أن تكون لمنافرة ونحوها ، وهي تصدق بهجرة الذين هاجروا إلى بلاد الحبشة وبهجرة الذين هاجروا إلى المدينة .
وعطف قوله وأخرجوا من ديارهم على هاجروا لتحقيق معنى المفاعلة في هاجر أي هاجروا مهاجرة لزهم إليها قومهم ، سواء كان الإخراج بصريح القول أم بالإلجاء ، من جهة سوء المعاملة ، ولقد لما لاقوه من سوء معاملة المشركين ، ثم هاجر المسلمون الهجرة الأولى إلى الحبشة المدينة والتحق به المسلمون كلهم ، لما لاقوه من أذى المشركين . ولا يوجد ما يدل على أن المشركين أخرجوا المسلمين ، وكيف واختفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه إلى هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هجرته إلى المدينة يدل على حرص المشركين على صده عن الخروج ، ويدل لذلك أيضا قول كعب :
في فتية من قريش قال قائلهم ببطن مكة لما أسلموا زولوا
وقوله وقاتلوا وقتلوا جمع بينهما للإشارة إلى أن للقسمين ثوابا . وقرأ الجمهور : وقاتلوا وقتلوا وقرأ حمزة . والكسائي ، وخلف : وقتلوا وقاتلوا عكس قراءة الجمهور ومآل القراءتين واحد ، وهذه حالة تصدق على المهاجرين والأنصار من الذين جاهدوا فاستشهدوا أو بقوا . وقوله لأكفرن عنهم سيئاتهم إلخ مؤكد بلام القسم . وتكفير السيئات تقدم آنفا .