لما بين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه واطمأنت نفوس المؤمنين أعقب ذلك بتنويه شأن الرسول صلى الله عليه وسلم والثناء على المؤمنين الذين معه .
و محمد خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو محمد يعود هذا الضمير المحذوف على قوله رسوله في الآية قبلها . وهذا من حذف المسند الذي وصفه السكاكي بالحذف الذي الاستعمال وارد على ترك المسند إليه وترك نظائره . قال التفتزاني في المطول ومنه قولهم بعد أن يذكروا رجلا : فتى من شأنه كذا وكذا ، وهو أن يذكروا الديار أو المنازل ربع كذا وكذا . ومن أمثلة المفتاح لذاك قوله : فراجعهما أي العقل السليم والطبع المستقيم في مثل قوله :
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت [ ص: 203 ] 206 فتى غير محجوب الغنى عن صديقه
ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
إذ لم يقل : هو فتى .
وهذا المعنى هو الأظهر هنا إذ ليس المقصود إفادة أن محمدا رسول الله وإنما المقصود بيان رسول الله من هو بعد أن أجرى عليه من الأخبار من قوله : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق إلى قوله : ليظهره على الدين كله فيعتبر السامع كالمشتاق إلى بيان : من هذا المتحدث عنه بهذه الأخبار ؟ فيقال له : محمد رسول الله ، أي هو محمد رسول الله . وهذا من العناية والاهتمام بذكر مناقبه صلى الله عليه وسلم .
فتعتبر الجملة المحذوف مبتدؤها مستأنفة استئنافا بيانيا .
وفيه وجوه أخر لا تخفى ، والأحسن منها هذا .
وفي هذا نداء على إبطال جحود المشركين رسالته حين محمد رسول الله . وقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت " . امتنعوا من أن يكتب في صحيفة الصلح " هذا ما قاضى عليه
وقوله " والذين معه " يجوز أن يكون مبتدأ و " أشداء " خبرا عنه وما بعده إخبار ، والمقصود . الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومعنى " معه " : المصاحبة الكاملة بالطاعة والتأييد كقوله تعالى : وقال الله إني معكم . والمراد : أصحابه كلهم لا خصوص أهل الحديبية .
وإن كانوا هم المقصود ابتداء فقد عرفوا بصدق ما عاهدوا عليه الله ، ولذلك حنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ناد يا أصل السمرة للعباس بن عبد المطلب . لما انهزم المسلمون يوم
ويجوز أن يكون والذين معه عطفا على رسوله من قوله : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق . والتقدير : وأرسل الذين معه ، أي أصحابه على أن المراد بالإرسال ما يشمل الإذن لهم بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى [ ص: 204 ] إذ أرسلنا إليهم اثنين الآية فإن المرسلين إلى أهل أنطاكية كانوا من الحواريين ، أمرهم عيسى بنشر الهدى والتوحيد . فيكون الإرسال البعث له في قوله تعالى : بعثنا عليكم عبادا لنا وعلى هذا يكون " أرسلنا " في هذه الآية مستعملا في حقيقته ومجازه .
و " أشداء " : جمع شديد ، وهو الموصوف بالشدة المعنوية وهي صلابة المعاملة وقساوتها ، قال تعالى في وصف النار عليها ملائكة غلاظ شداد .
والشدة على الكفار : هي الشدة في قتالهم وإظهار العداوة لهم ، وهذا وصف مدح لأن المؤمنين الذين مع النبيء صلى الله عليه وسلم كانوا هم فئة الحق ونشر الإسلام فلا يليق بهم إلا إظهار الغضب لله والحب في الله والبغض في الله من الإيمان ، وأصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم أقوى المؤمنين إيمانا من أجل إشراق أنوار النبوة على قلوبهم فلا جرم أن يكونوا أشد على الكفار فإن بين نفوس الفريقين تمام المضادة وما كانت كراهيتهم للصلح مع الكفار يوم الحديبية ورغبتهم في قتل أسراهم الذين ثقفوهم يوم الحديبية وعفا عنهم النبيء صلى الله عليه وسلم إلا من آثار شدتهم على الكفار ولم تكن لاحت لهم المصلحة الراجحة على القتال وعلى القتل التي آثرها النبيء صلى الله عليه وسلم .
ولذلك كان أكثرهم محاورة في إباء الصلح يومئذ أشد أشدائهم على الكفار ، وهو وكان أفهمهم للمصلحة التي توخاها النبيء صلى الله عليه وسلم في إبرام الصلح عمر بن الخطاب أبو بكر . وقد قال يوم سهل بن حنيف صفين : أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم ، ولو نستطيع أن نرد على رسول الله فعله لرددناه ، والله ورسوله أعلم . أبي جندل
ثم تكون أحكام الشدة على الكفار من وجوب وندب وإباحة وأحكام صحبتهم ومعاملتهم جارية على مختلف الأحوال ولعلماء الإسلام فيها مقال ، وقد تقدم كثير من ذلك في سورة آل عمران وفي سورة براءة .
والشدة على الكفار اقتبسوها من شدة النبيء صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين قال تعالى : بالمؤمنين رءوف رحيم .
وأما كونهم رحماء بينهم فذلك من رسوخ أخوة الإيمان بينهم في نفوسهم .
[ ص: 205 ] وقد وردت أخبار أخوتهم وتراحمهم في مواضع كثيرة من القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم .
وفي الجمع لهم بين هاتين الخلتين المتضادتين الشدة والرحمة إيماء إلى أصالة آرائهم وحكمة عقولهم ، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرف الحكمة والرشد فلا تغلب على نفوسهم محمدة دون أخرى ولا يندفعون إلى العمل بالجبلة وعدم الرؤية .
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين في سورة العقود .
وفي تعليق " رحماء " مع ظرف ( بين ) المفيد للمكان الداخل وسط ما يضاف هو إليه تنبيه على انبثاث التراحم فيهم جميعا قال النبيء صلى الله عليه وسلم : . تجد المسلمين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى له جميع الجسد بالسهر والحمى
والخطاب في تراهم لغير معين بل لكل من تتأتى رؤيته إياهم ، أي يراهم الرائي .
وإيثار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك ، أي تراهم كلما شئت أن تراهم ركعا سجدا . وهذا ثناء عليهم بشدة إقبالهم على أفضل الأعمال المزكية للنفس ، وهي الصلوات مفروضها ونافلتها وأنهم يتطلبون بذلك رضا الله ورضوانه . وفي سوق هذا في مساق الثناء إيماء إلى أن الله حقق لهم ما يبتغونه .
والسيما : العلامة ، وتقدم عند قوله تعالى : تعرفهم بسيماهم في البقرة ، وهذه سيما خاصة هي من أثر السجود .
واختلف في المراد من السيما التي وصفت بأنها من أثر السجود على ثلاثة أنحاء ، الأول : أنها أثر محسوس للسجود ، الثاني : أنها من الأثر النفسي للسجود ، الثالث : أنها أثر يظهر في وجوههم يوم القيامة .
فبالأول فسر مالك بن أنس وعكرمة وأبو العالية قال مالك : السيما هي ما [ ص: 206 ] يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود مثل ما تعلق بجبهة النبيء صلى الله عليه وسلم من أثر الطين والماء لما وكف المسجد صبيحة إحدى وعشرين من رمضان . وقال السعيد وعكرمة : الأثر كالغدة يكون في جبهة الرجل .
وليس المراد أنهم يتكلفون حدوث ذلك في وجوههم ولكنه يحصل من غير قصد بسبب تكرر مباشرة الجبهة للأرض وبشرات الناس مختلفة في التأثر بذلك فلا حرج على من حصل له ذلك إذا لم يتكلفه ولم يقصد به رياء .
وقال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب .
وإلى النحو الثاني فسر الأعمش والحسن وعطاء والربيع ومجاهد عن ابن عباس وابن جزء والضحاك . فقال : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار . وقريب منه عن الأعمش عطاء والربيع بن سليمان . وقال : هو حسن السمت . ابن عباس
وقال مجاهد : هو نور من الخشوع والتواضع . وقال الحسن والضحاك : بياض وصفرة وتهيج يعتري الوجوه من السهر .
وإلى النحو الثالث فسر أيضا سعيد بن جبير والزهري في رواية وابن عباس العوفي والحسن أيضا وخالد الحنفي وعطية : أنها سيما تكون لهم يوم القيامة ، وقالوا : هي بياض يكون في الوجه يوم القيامة كالقمر ليلة البدر يجعله الله كرامة لهم . وشهر بن حوشب
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن قال : أبي بن كعب سيماهم في وجوههم من أثر السجود : النور يوم القيامة ، قيل : وسنده حسن . وهو لا يقتضي تعطيل بقية الاحتمالات إذ كل ذلك من السيما المحمودة ولكن النبيء صلى الله عليه وسلم ذكر أعلاها . قال رسول الله في قوله تعالى :
وضمائر الغيبة في قوله " تراهم ، ويبتغون ، و سيماهم في وجوههم عائدة إلى " الذين معه " على الوجه الأول ، وإلى كل من محمد رسول الله والذين معه على الوجه الثاني .