من عذاب يوم أليم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا
هذا التفريع هو المقصود من سوق القصة مساق التنظير بين أحوال الرسل ، أي عقب دعوته والذين تقلدوا ملته طلبا للاهتداء . اختلاف الأحزاب من بين الأمة الذين بعث إليهم
وهذا التفريع دليل على جواب ( لما ) المحذوف .
وضمير " بينهم " مراد به الذين جاءهم عيسى لأنهم معلومون من سياق القصة من قوله " جاء عيسى " فإن المجيء يقتضي مجيئا إليه وهم اليهود .
و ( من ) يجوز أن تكون مزيدة لتأكيد مدلول " بينهم " أي اختلفوا اختلاف أمة واحدة ، أي فمنهم من صدق عيسى وهم : يحيى بن زكريا ومريم أم عيسى والحواريون الاثنا عشر وبعض نساء مثل مريم المجدلية ونفر قليل ، وكفر به جمهور اليهود وأحبارهم ، وكان ما كان من تألب اليهود عليه حتى رفعه الله .
ثم انتشر الحواريون يدعون إلى شريعة عيسى فاتبعهم أقوام في بلاد رومية وبلاد اليونان ولم يلبثوا أن اختلفوا من بينهم في أصول الديانة فتفرقوا ثلاث فرق : نسطورية ، ويعاقبة ، وملكانية . فقالت النسطورية : عيسى ابن الله ، وقالت اليعاقبة : عيسى هو الله ، أي بطريق الحلول ، وقالت الملكانية وهم الكاثوليك : عيسى ثالث ثلاثة مجموعها هو الإله ، وتلك هي : الأب الله ، والابن عيسى ، وروح القدس جبريل فالإله عندهم أقانيم ثلاثة .
وقد شملت الآية كلا الاختلافين فتكون الفاء مستعملة في حقيقة التعقيب ومجازه . بأن يكون شمولها للاختلاف الأخير مجازا علاقته المشابهة لتشبيه مفاجأة [ ص: 250 ] طرو الاختلاف بين أتباعه مع وجود الشريعة المانعة من مثله كأنه حدث عقب بعثة عيسى وإن كان بينه وبينها زمان طويل دبت فيه بدعتهم ، واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه شائع لأن المدار على أن تكون قرينة المجاز مانعة من إرادة المعنى الحقيقي وحده على التحقيق .
وهذا الاختلاف أجمل هنا ووقع تفصيله في آيات كثيرة تتعلق بما تلقى به اليهود دعوة عيسى ، وآيات تتعلق بما أحدثه النصارى في دين عيسى من زعم بنوته من الله وإلهيته .
ويجوز أن تكون ( من ) في قوله من بينهم ابتدائية متعلقة بـ " اختلف " أي نشأ الاختلاف من بينهم دون أن يدخله عليهم غيرهم ، أي كان دينهم سالما فنشأ فيهم الاختلاف .
وعلى هذا الوجه يختص الخلاف بأتباع عيسى عليه السلام من النصارى إذ اختلفوا فرقا وابتدعوا قضية بنوة عيسى من الله فتكون الفاء خالصة للتعقيب المجازي .
وفرع على ذكر الاختلاف تهديد بوعيد للذين ظلموا بالعذاب يوم القيامة تفريع التذييل على المذيل ، فالذين ظلموا يشمل جميع الذين أشركوا مع الله غيره في الإلهية إن الشرك لظلم عظيم ، وهذا إطلاق الظلم غالبا في القرآن ، فعلم أن الاختلاف بين الأحزاب أفضى بهم أن صار أكثرهم مشركين بقرينة ما هو معروف في الاستعمال من لزوم مناسبة التذييل للمذيل ، بأن يكون التذييل يعم المذيل وغيره فيشمل عموم هذا التذييل مشركي العرب المقصودين من هذه الأمثال والعبر ، ألا ترى أنه وقع في سورة مريم قوله فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم فجعلت الصلة فعل " كفروا " لأن المقصود من آية سورة مريم الذين كفروا من النصارى ولذلك أردف بقوله لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين لما أريد التخلص إلى إنذار المشركين بعد إنذار النصارى .