فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين
عقب ما مضى من القصة بالمقصود وهو هذه الأمور الثلاثة المترتبة المتفرع بعضها على بعض وهي : الانتقام ، فالإغراق ، فالاعتبار بهم في الأمم بعدهم .
والأسف : الغضب المشوب بحزن وكدر ، وأطلق على صنيع فرعون وقومه فعل آسفونا ؛ لأنه فعل يترتب عليه انتقام الله منهم انتقاما كانتقام الآسف ؛ لأنهم عصوا رسوله وصمموا على شركهم بعد ظهور آيات الصدق لموسى عليه السلام .
فاستعير " آسفونا " لمعنى عصونا للمشابهة ، والمعنى : فلما عصونا عصيان العبد ربه المنعم عليه بكفران النعمة ، والله يستحيل عليه أن يتصف بالآسف كما يستحيل عليه أن يتصف بالغضب على الحقيقة ، فيؤول المعنى إلى أن الله عاملهم كما يعامل السيد المأسوف عبدا أسفه فلم يترك لرحمة سيده مسلكا .
وفعل آسف قاصر فعدي إلى المفعول بالهمزة .
وفي قوله : " فلما آسفونا " إيجاز لأن كونهم مؤسفين لم يتقدم له ذكر حتى يبنى أنه كان سببا للانتقام منهم فدل إناطة أداة التوقيت به على أنه قد حصل ، والتقدير : فآسفونا فلما آسفونا انتقمنا منهم .
والانتقام تقدم معناه قريبا عند قوله تعالى فإنا منهم منتقمون .
وإنما عطف " فأغرقناهم " بالفاء على " انتقمنا منهم " مع أن إغراقهم هو عين الانتقام منهم ، إما لأن فعل " انتقمنا " مؤول بقدرنا الانتقام منهم فيكون [ ص: 235 ] عطف " فأغرقناهم " بالفاء كالعطف في قوله " أن يقول له كن فيكون ، وإما أن تجعل الفاء زائدة لتأكيد تسبب " آسفونا " في الإغراق ، وأصل التركيب : انتقمنا منهم أغرقناهم ، على أن جملة " فأغرقناهم " مبينة لجملة " انتقمنا منهم " فزيدت الفاء لتأكيد معنى التبيين ، وإما أن تجعل الفاء عاطفة جملة " انتقمنا " على جملة " فاستخف قومه " فأغرقناهم أجمعين وتكون جملة " انتقمنا منهم " معترضة بين الجملة المفرعة والمفرعة عنها ، وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم .
وفرع على إغراقهم أن الله جعلهم سلفا لقوم آخرين ، أي يأتون بعدهم .
والسلف بفتح السين وفتح اللام في قراءة الجمهور : جمع سالف مثل : خدم لخادم ، وحرس لحارس . والسالف الذي يسبق غيره في الوجود أو في عمل أو مكان ، ولما ذكر الانتقام كان المراد بالسلف هنا السالف في الانتقام ، أي أن من بعدهم سيلقون مثل ما لقوا . وقرأ حمزة وحده والكسائي ( سلفا ) بضم السين وضم اللام وهو جمع سليف اسم للفريق الذي سلف ومضى .
والمثل : النظير والمشابه ، يقال : مثل بفتحتين كما يقال شبه ، أي مماثل . قال أبو علي الفارسي : المثل واحد يراد به الجمع . وأطلق المثل على لازمه على سبيل الكناية ، أي جعلناهم عبرة للآخرين ، يعلمون أنهم إن عملوا مثل عملهم أصابهم مثل ما أصابهم .
ويجوز أن يكون المثل هنا بمعنى الحديث العجيب الشأن الذي يسير بين الناس مسير الأمثال ، أي جعلناهم للآخرين حديثا يتحدثون به ويعظهم به محدثهم .
ومعنى الآخرين : الناس الذين هم آخر مماثل لهم في حين هذا الكلام فتعين أنهم المشركون المكذبون للرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن هؤلاء هم آخر الأمم المشابهة لقوم فرعون في عبادة الأصنام وتكذيب الرسول . ومعنى الكلام : فجعلناهم سلفا لكم ومثلا لكم فاتعظوا بذلك .
ويتعلق للآخرين بـ " سلفا ومثلا " على وجه التنازع .