وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب أي علم داود بعد انتهاء الخصومة أن الله جعلها له فتنة ليشعره بحال فعلته مع ( أوريا ) ، وقد أشعره بذلك ما دله عليه انصراف الخصمين بصورة غير معتادة ، فعلم أنهما ملكان وأن الخصومة صورية فعلم أن الله بعثهما إليه عتبا له على متابعة نفسه زوجة ( أوريا ) وطلبه التنازل عنها .
وعبر عن علمه ذلك بالظن لأنه علم نظري اكتسبه بالتوسم في حال الحادثة ، وكثيرا ما يعبر عن العلم النظري بالظن لمشابهته الظن من حيث إنه لا يخلو من تردد في أول النظر .
و ( أنما ) مفتوحة الهمزة أخت ( إنما ) تفيد الحصر ، أي ظن أن الخصومة ليست إلا فتنة له ، أو ظن أن ما صدر منه في تزوج امرأة أوريا ليس إلا فتنة .
ومعنى " فتناه " قدرنا له فتنة ، فيجوز أن تكون الفتنة بالمعنى المشهور في تدبير الحيلة لقتل أوريا فعبر عنها بالفتنة لأنها أورثت داود مخالفة للأليق به من صرف نفسه عن شيء غيره ، وعدم متابعته ميله النفساني وإن كان في دائرة المباح في دينهم ، فيكون المعنى : وعلم أن ما صدر منه فتنة من النفس .
وإنما علم ذلك بعد أن أحس من نفسه كراهية مثلها مما صوره له الخصمان .
ويجوز أن يكون الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار ، كقوله تعالى لموسى وفتناك [ ص: 240 ] فتونا ، أي ظن أنا اختبرنا زكانته بإرسال الملكين ، يصور أن له صورة شبيهة بفعله ففطن أن ما فعله أمر غير لائق به .
وتفريع فاستغفر ربه على ذلك الظن ظاهر على كلا الاحتمالين ، أي لما علم ذلك طلب الغفران من ربه لما صنع .
وخر خرورا : سقط ، وقد تقدم في قوله تعالى فخر عليهم السقف من فوقهم في سورة النحل .
والركوع : ، قال تعالى الانحناء بقصد التعظيم دون وصول إلى الأرض تراهم ركعا سجدا ، فذكر شيئين . قالوا : لم يكن لبني إسرائيل سجود على الأرض وكان لهم الركوع ، وعليه فتقييد فعل ( خر ) بحال " راكعا " تمجز في فعل ( خر ) بعلاقة المشابهة تنبيها على شدة الانحناء حتى قارب الخرور . ومن قال : كان لهم السجود جعل إطلاق الرجوع عليه مجازا بعلاقة الإطلاق . وقال ابن العربي : لا خلاف في أن الركوع هاهنا السجود ، قلت : الخلاف موجود .
والمعروف أنه ليس لبني إسرائيل سجود بالجبهة على الأرض ، ويحتمل أن يكون السجود عبادة الأنبياء كشأن كثير من شرائع الإسلام كانت خاصة بالأنبياء من قبل كما تقدم قوله تعالى فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، وتقدم قوله تعالى وخروا له سجدا في سورة يوسف .
وكان داود - عليه السلام - تضرعا لله تعالى ليقبل استغفاره . ركوع
والإنابة : التوبة : يقال : أناب ، ويقال : ناب . وتقدم عند قوله تعالى إن إبراهيم لحليم أواه منيب في سورة هود . وعند قوله منيبين إليه في سورة الروم .
وهنا مالك لثبوت سجود النبيء - صلى الله عليه وسلم - عندها . ففي صحيح موضع سجدة من سجود القرآن من العزائم عند عن البخاري مجاهد " عن السجدة في ص فقال : أوما تقرأ ابن عباس ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فكان داود ممن أمر نبيئكم أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها رسول الله " ، وفي سنن سألت أبي داود عن [ ص: 241 ] " ابن عباس قال قرأ رسول الله وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود ( أي تهيأوا وتحركوا لأجله ) فقال رسول الله : إنما هي توبة نبيء ولكني رأيتكم تشزنتم ، فنزل فسجد وسجدوا أبي سعيد الخدري " ، وقول ليس ص من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها ، وفيه عن أبي حنيفة فيها مثل قول مالك ، ولم ير سجودا في هذه الآية إما لأجل قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - : " الشافعي " فرجع أمرها إلى أنها إنما هي توبة نبيء ، شرع من قبلنا لا يرى شرع من قبلنا دليلا . والشافعي
ووجه السجود فيها عند من رآه أن ركوع داود هو سجود شريعتهم ، فلما اقتدى به النبيء - صلى الله عليه وسلم - أتى في اقتدائه بما يساوي الركوع في شريعة الإسلام وهو السجود . وقال أبو حنيفة : الركوع يقوم مقام سجود التلاوة أخذا من هذه الآية .
واسم الإشارة في قوله فغفرنا له ذلك إلى ما دلت عليه خصومة الخصمين من تمثيل ما فعله داود بصورة قضية الخصمين ، وهذا من لطائف القرآن إذ طوى القصة التي تمثل له فيها الخصمان ثم أشار إلى المطوي باسم الإشارة ، وأتبع الله الخبر عن الغفران له بما هو أرفع درجة وهو أنه من المقربين عند الله المرضي عنهم وأنه لم يوقف به عند الغفران لا غير .
والزلفى : القربى ، وهو مصدر أو اسم مصدر .
وتأكيد الخبر لإزالة توهم أن الله غضب عليه إذ فتنه تنزيلا لمقام الاستغراب منزلة مقام الإنكار .
والمآب : مصدر ميمي بمعنى الأوب ، وهو الرجوع . والمراد به : الرجوع إلى الآخرة . وسمي رجوعا لأنه رجوع إلى الله ، أي إلى حكمة البحت ظاهرا وباطنا ، قال تعالى إليه أدعو وإليه مآب .
وحسن المآب : حسن المرجع ، وهو أن يرجع رجوعا حسنا عند نفسه وفي [ ص: 242 ] مرأى الناس ، أي له حسن رجوع عندنا وهو كرامة عند الله يوم الجزاء ، أي الجنة يئوب إليها .